النموذج الحضاري الإسلامي في الاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم
(الجزء الثالث)
أما موسى عليه السلام أحد أولي العزم من الرسل فقد احترف رعي الغنم لمدة عشر سنوات وكان ذلك صداقاً لزواجه من إحدى بنات الأنبياء وهو شعيب عليه السلام ، قال تعالى :{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}(القصص: 27-28) . ورعي الغنم يعتبر اليوم عند البعض من الوظائف المهنية الوضيعة التي يترفع عنها الكثير من المتربين ، ولكن الحضارة لا تستغني عن أي وظيفة مهنية صغيرةً كانت أو كبيرة . وفي هذه القصة يظهر معرفة شعيب عليه السلام بالقدرات وحسن اختياره وتوظيفه للطاقات مما يبين أهمية اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب في مشروع البناء الحضاري.ومن مواصفات الرجل المهني كما تبين من القصة أن يكون قوياً أميناً لمواصلة العمل والحفاظ على الأمانة .
ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالأنبياء في ما يلي :
أ – الاقتداء بالأنبياء في التركيز على الصناعات الخفيفة والثقيلة .
وذلك لحاجة الأمة إليها في عملية النهوض الحضاري . فنبي الله سليمان عليه السلام أُوتي قدرة التحكم في الهواء ، وكان سباقاً في اكتشاف واستغلال نعمة الريح لخدمة أغراضه واستفاد منها هو ومجتمعه .قال تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}(الانبياء:81) . وكان للشياطين دور بارز في تنشيط الحركة الاقتصادية و زيادة الموارد المالية لدولة سليمان عليه السلام ، فكانوا نعم الموظفين الجادين في أعمالهم والمطيعين لرئيسهم . قال تعالى:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (الأنبياء:82) . وقال تعالى : {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ.يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ 12-13) .
وقد فسر ابن الجوزي رحمه الله(ت597، 1404) الآيات السابقة ، وفيما يلي بعض الشواهد الحضارية منها :
– أجرى الله لسليمان عليه السلام عين القِطر وهو النحاس المذاب حتى صنع منها ما أراد من غير نار كما ألين لداود عليه السلام الحديد بغير نار . فبقيت تجري ثلاثة أيام و لياليهن كجري الماء ، وإن ما يعمل الناس اليوم مما أُعطي سليمان .
– أن الجن كانت تبني له المساجد والقصور ، وقيل كانت تصنع له صور الطواويس والعقبان والنسور وتضعها على كرسيه ودرجات سريره مبالغةً في الأُبهة والعظمة ، وهذا التصوير لم يكن محرماً يومئذ .
– كانت الجن تصنع له قدوراً ضخمةً لا يُستطاع تحريكها لثباتها حتى إنه ليأكل من القدر الواحد ألف رجل ( ج6 ص438).
ومن استقرأ التاريخ القديم والحديث يتيقن أن مظاهر الأبهة والعظمة والتحكم في الجن وركوب البساط الرياحي لم تتيسر لأي من الملوك والعظماء في الحضارات المختلفة ولم تتهيأ لأرباب الحضارة المعاصرة الممتلئة غروراً وعنجهيةً . قال تعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:35) . قال البخاري عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم : ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة –أو كلمة نحوها – ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (صّ: من الآية35) رواه البخاري في كتاب الصلاة (ج1 ص82) .
ب – الاقتداء بالأنبياء في ممارسة المهن التي تحتاج إلى مهارات عقلية عالية
فهناك من المهن التي تحتاج إعداداً خاصاً ونبوغاً متميزاً كالطب والهندسة وهي من أعمال الأنبياء التي قاموا بها .وقد علم الله نوحاً عليه السلام صناعة السفن ، وكان عيسى عليه السلام طبيباً بشرياً يشفي المرضى ذوي العاهات بإذن الله تعالى ، وبلغ من معجزاته التي آتاه الله إياها أن أحيا الأموات من قبورهم . قال تعالى :{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (المائدة:110) .
أما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد عمل فترة طفولته في رعي الغنم ، ولما شب عن الطوق وأصبح رجلاً توظف في عمل تجاري في مؤسسة خديحة رضي الله عنها . ولما آتاه الله النبوة كان مصدره المعيشي من الجهاد في سبيل الله