وحذر السلف من كل ما قد يتسبب في إمراض القلب، أو فساده، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت، حتى يصير قلبه لون الشاة الربداء”.
وعن الحسن رحمه الله قال قال: “لا يزال العبد بخير ما لم يصب كبيرة تفسد عليه قلبه، وعقله”، وقال: “لا تمكن أذنيك صاحب هوى فيمرض قلبك”، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: “الغناء ينبت النفاق في القلب”.
بل حتى في أمور الحياة فقد كانوا يوجهون إلى البعد عما يشغل القلب، ويشتت البال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أهل المدينة لا تتخذوا الأموال بمكة واتخذوها بالمدينة فإن قلب الرجل مع ماله”.
وهم مستشعرين في ذلك كله أن المالك للقلوب والمتصرف فيها هو الله عزّ وجلّ، وإنما عليهم بذل الأسباب، معتمدين قبل ذلك على الله عزّ وجلّ في إصلاح قلوبهم، كان مطرف بن عبد لله بن الشخير يقول: “لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه، حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه”.
ومما يبين مكانة القلب عند السلف وعلماء المسلمين هو اهتمامهم بعلم القلوب وما يتعلق به من مسائل في تشخيص أمراضها، ووصف العلاج النافع لها، وبيان طرق وأساليب إصلاحها؛ ونشأة علم القلوب بدأ مع بداية التنزيل للقرآن الكريم، حيث حوى القرآن الكريم جملة من الآيات التي تحدثت عن القلوب ومنهج إصلاحها، ومثلت السنة النبوية المنهج العملي لتطبق ذلك المنهج على أرض الواقع، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة العملية في ذلك فهو القائل صلى الله عليه وسلم « أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ »، وكانت توجيهاته الرائدة لأصحابه رضي الله عنهم في ما به صلاح قلوبهم، واستقامتها على الخير، والهدى والإيمان؛ تمثل منهجاً عملياً يسيرون عليه في حياتهم.
وهكذا نجد أن القرآن الكريم، والسنة النبوية، تعد المصدر الأساس في نشأة علم القلوب، ثم تأتي توجيهات الصحابة الكرام، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، لتنطلق من ذلك النبع الصافي؛ وتعطي منهجاً متكاملاً في دقائق علم القلوب وتفاصيل أحوالها وطرق إصلاحها، وكان الحديث عن القلوب وسبل إصلاحها، يتم تداوله في مجالس العلم، وحلقات الذكر، ووصايا الصالحين، دون أن يتطرق إلى جمعه وتدوينه والتأليف فيه.
وبجمع القرآن الكريم، وتدوين السنة النبوية، تتكون النواة الأولى للتدوين، والكتابة في علم القلوب، ثم تأتي مرحلة أخرى يتم فيها الحديث عن القلوب، والكتابة في ذلك في ثنايا كتب أهل العلم، الذين يتطرقون إلى تفسير آيات القرآن الكريم، أو التبويب والإيضاح لأحاديث الرسول الكريم، (وأما تدوين علم القلوب، بالمعنى الاصطلاحي الشامل، لتشخيص الأمراض القلبية، وتحديد العلاج لكل منها منفصلاً عن الكتاب، والسنة، ومفرداً في كتب متخصصة، فإنا لا نعرف أنه دون على هذه الصفة، قبل القرن الثالث الهجري، ولعل بدايته المؤصلة الثابتة كانت في القرن الرابع الهجري).
“وقد كتب علماء المسلمين في هذا الميدان كتابة علمية قيمه، وفصلوا الكلام على الأمراض النفسية تفصيلاً متقناً، ومادتها العلمية في هذا العلم سواءً تشخيص الأمراض، أو علاجها، إنما هي مستمدة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكان دور العلماء هو استخراج واستنباط المعاني، والمقاصد، وتنزيلها على الوقائع والأحوال، إلا أن العلماء يتفاوتون في هذا الصدد في اعتمادهم على نصوص الكتاب، والسنة من حيث التفصيل والتفريع، وهذا الذي أدى إلى بعض التباين والتناقض في بعض القضايا تبعاً للتقيد بالنص ودلالته، أو الانطلاق خارج حدود النصوص، وإعطاء العقل والوجدان استقلالية في تحديد الفكر، والتصور في التصرف، والسلوك”.
وكان للعلماء المتأثرين بفكر التصوف دور في الكتابة في هذا المجال، وحصل منهم جملة من الانحرافات في بعض القضايا، بسبب عدم تقيدهم بالنصوص الشرعية، وهذا ما حدا بكثير من العلماء الربانين المتقيدين بالنصوص الشرعية؛ بالكتابة في هذا الباب وإثرائه في ثنايا كتبهم، وشروحاتهم، أو ككتابات مستقلة في ذلك، معتمدين على نصوص الكتاب والسنة، وقاموا بالرد على الانحرافات الصوفية في هذا الميدان.
ومن أهم كتابات العلماء المسلمين المتقدمين في هذا المجال:
v اعتلال القلوب، لأبي بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي، المتوفى 327 هـ.
v قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي محمد بن علي الحارثي، المتوفى 386 هـ.
v منازل السائرين، لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي، المتوفى 481 هـ.
v إحياء علوم الدين، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي، المتوفى 505هـ.
v أمراض القلب وشفاؤها، لشيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم تيمية، المتوفى 728 هـ.
v التحفة العراقية في الأعمال القلبية، لشيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم تيمية، المتوفى 728 هـ.
v مدارج السالكين، لابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، المتوفى 751 هـ.
v ذم قسوة القلوب، لابن رجب عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي، المتوفى 795 هـ.