الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين ، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد دأب علماء المسلمين الأوائل على صياغة مناهج علميَّة يَقْتَفون على أثرها الحقائق، ويَخْلُصون من خلالها إلى النتائج، ويبدؤون البحث في المسائل العلميَّة بصورةٍ منهجيَّة؛ لتكون بين أيديهم وسيلةً يبحثون على ضوئها عن ضالتهم المعرفيَّة، مما أَنْتَج المنهج الأصوليِّ؛ والذي كان له الأسبقيَّة في الظهور على غيره لدى علماء أصول الفقه .هذا العلم المتين الذي يعد من أكثر العلوم الإسلاميَّة علاقة بمسألة المنهج، بل ومن أكثرها صورة وتعبيرًا عنه في العلوم الإسلاميَّة، وهو العلم الذي كشف عن ابتكار المسلمين له وتقعيدهم للمنهجيَّة العلميَّة .باعتبار أن أصول الفقه في نظر الدارسين المسلمين قديمًا وحديثًا هو من ثمرة العقل الإسلامي الخالص . لقد كان ظهوره سببًا قويًّا في تَمَيِّزِ التفكير العلمي عند المسلمين الأوائل؛ لاعتماده على خطواتٍ منطقيَّة متسلسلةٍ في مناقشة المسائل والقضايا . وقد شهد بذلك بعض مفكري هذا العصر بأن أصول الفقه علمُ ” لا نجد له نظيرًا لا عند اليونان والرومان في الغرب، ولا عند البابليين والصين والهند وإيران ومصر في الشرق، ولا في أي مكان آخر”.
وبما أن التربية الإسلاميَّة تربية تَسْتَمدُّ روحها، وحَيَويِّتَها ،وتَجَدُدَها من الشريعة الغراء؛ فإنها مؤهلةٌ تلقائيًّا وبصورةٍ ربانيَّة لإبراز طريقةٍ منهجيَّة يمكن من خلالها أن تواكب التطور ،والتقدم، والتغيُّر العالمي وضغط الواقع الذي لا يسعنا دفعه أو تجاوزه ، مع المحافظة على هويتها وخصائصها دون تنازلات، وهذه حقيقةٌ يثبتها من يتصفح تأريخ الأمة الإسلاميَّة وتراثها العميق في المجال التربوي؛ إذ إنه سيستشف- بلا أدنى ريب- أن بعض علماء التربية المسلمين على مَرِّ العصور كانوا يتعاملون مع بعض قضاياهم ونوازلهم التربويَّة والتعليميَّة من خلال رؤًى مختلفة، كما أكد ذلك د. سعيد إسماعيل علي، حيث أشار إلى أنه بعد استقرائه لأهم الكتابات الفقهيَّة في المجال التربوي يجد القارئ أن اهتمامات أصحابها كانت تشكل قضيَّة ملحة بالنسبة لعصرهم فبرزت في فكرهم ونتاجهم التربوي، بينما لم تعد هذه القضايا ملحة في عصرنا الراهن
ومن هذه الرُّؤَى أن يكون التعامل برؤية العلماء المشتغلين بالحديث النبوي الشريف، كعالم التربية الإسلاميَّة ابن سحنون الذي ألف في التربية سفرًا أصيلًا ورسالةً قيمةً جاءت “هذه الرسالة على أسلوب المحدثين، أي في قالب رواية رواها محمد بن سحنون عن أبيه كلها، أو جلها ثم سجلها كتابيًّا وتناقلها النُّساخ من بعده” فأصبح لها تأثير وصدى في عصره والعصور التالية، حيث “بقيت الكتاتيب تسير على ضوئها في جزء كبير من العالم، وبالخصوص في بلاد المغرب إلى يومنا هذا” والعالم ابن عبد البر الأندلسي الذي ألف كتاب (جامع بيان العلم وفضله) و”سلك فيه مسلك المحدثين الذين كان من أئمتهم، فهو يورد الفكرة والخبر في عنوان الفصل ثم يستشهد عليهما بما حفظ من الأحاديث النبويَّة والآثار الإسلاميَّة ويبين فيه أقسام العلم إلى فرض عين وفرض كفاية ومباح، ويذكر فصولًا مطولة في الحضِّ على العلم وآداب العلماء وآداب المتعلمين وآداب المتناظرين والمفتين”.
كذلك الإمام الخطيب البغدادي” أحد أبرز علماء هذه المدرسة، وأكثرهم تأثيرًا في معاصريه وفي الأجيال التالية له من علماء الحديث، وقد أثنى عليه كثير من العلماء القدامى والمحْدثين باعتباره علَمًا بارزًا من أعلام الفكر الإسلامي”، كما أن له نتاجا تربويا عميقا متخصصة في التربية والتأديب، مثل كتاب (الجامع لأخلاق الراوي) وكتاب (آداب السامع) وكتاب (الفقيه والمتفقه)، وكتاب (الرحلة في طلب الحديث)، وكتاب (تقييد العلم)، وكتاب (اقتضاء العلم والعمل) وغيرها . ويمكن القول إن الخطيب البغدادي الذي اشتهر بانضمامه إلى مدرسة المحدِّثين كان له باعٌ ليس بالقصير في مجال أصول الفقه، والدليل على ذلك تأليفه “الفقيه والمتفقه” الذي كتب فيه عن هذا العلم تقريبًا ثلثي الكتاب، وثلثه للنواحي التعليميَّة والتربويَّة .
ولعل هذه نقطة اتصال مع الرؤية الثانية بعد رؤية المشتغلين بالحديث، وهي التعامل مع القضايا والنوازل التربويَّة برؤية المشتغلين بعلم أصول الفقه، والسبب في هذا الدمج بين علماء الفقه والحديث هو قيام علماء الفقه بالتدريس وكان تدريسهم الفقه من خلال تدريس الحديث النبوي الشريف ومن أمثال المتبنين لهذه الرؤية العالم الجليل أبو حنيفة في كتابه (العالم والمتعلم)، والعالم أحمد بن أبي جمعة المغراوي رجل من رجالات التربية في ديار المغرب الذي كان يتمتع بحاسة فقهيَّة قويَّة، وهي الظاهرة التي يؤكدها تأليفه الذي يعالج صلة المعلمين بالآباء، واسمه (جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض بين المعلمين وآباء الصبيان).
فالاطلاع على كتب هؤلاء المفكرين على تنوع مدارسهم يعكس واقعًا تربويًّا تاريخيًّا من عمر التربية الإسلاميَّة، مرت فيها بقضايا تربويَّة كانت للمفكرين معها مواقف علميَّة أثرت الأصول التاريخيَّة والفلسفيَّة للتراث الفكري التربوي.
وبناءً على ذلك يمكن القول بأن إبراز المنهجيَّة العلميَّة في أي موضوع علمي بعامة وموضوع التربية الإسلاميَّة بخاصة تأصيلًا للفكر المنهجي الذي يأخذ بيد الباحث التربوي عن الحقيقة إلى هدفه ومبتغاه عبر رؤى ثاقبة وطريق واضحة المعالم.
ولا يتأتى التأصيل المنهجي إلا بالعكوف على الوحي المطهر بالتأمل والتدبُّر، هذا الوحي الذي تستقي منه التربية الإسلاميَّة قيمها ومبادئها وركائزها المتينة، إضافةً إلى روافده المتدفقة منه المتمثلة في العلوم المتصلة به كعلم أصول الفقه والذي يندرج ضمن اهتماماته معالجة النوازل مختلفة الأنواع والمجالات، ومنها نوازل المجال التربوي.
وهذا النوع من التأصيل يحتاجه المتخصص التربوي، فضلًا عن غيره من المتخصصين، للتعامل مع القضايا التربويَّة المعاصرة بطريقةٍ منهجيَّة متسلسلةٍ يصل في نهايتها إلى خيارٍ لا يخرج في الغالب عن ثلاثة خيارات؛ إما أن يتبنى هذه النازلة التربويَّة بكل حيثياتها وعناصرها، أو يُقصيها إقصاءً كليًّا، أو يتعامل معها بصورةٍ مرنةٍ، بحيث يستفيد منها قدر الاستطاعة، مع ترك ما لا يتناسب وتربيتنا الإسلاميَّة الرشيدة، وفي هذا الخيار برهانٌ قويٌ على مرونة التربية الإسلاميَّة وتحقيقها لمبدأ الوسطيَّة.
والحديث عما يستجدُّ على الساحة التربويَّة لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديدٍ؛ للتسارع التقني والانفتاح المعرفي الذي يعد من أبرز نتاجات العولمة، إضافةً إلى أن التربية تتميز بالتطور والاستمراريَّة، فبعض النوازل التربويَّة في المجتمع المسلم هي وليدة مجتمعاتٍ متقدمةٍ ونتاج ابتكاراتها ومتغيراتها، ومن ناحية أخرى تصبح دخيلةً على مجتمعاتٍ متأخرةٍ ترغب في احتضان هذه المتغيرات؛ نظرًا لما تفرضه عليها ظروف التعايش والانفتاح، فتسعى حثيثًا للَّحاق بتلك المجتمعات المتقدمة.
غير أن المشكلة لا تكمن في طبيعة النوازل التربويَّة، أو كيفيَّة جلبها وفرضها على المجتمع فقط، وإنما تكمن في كيفيَّة تهيئة هذا المجتمع لقبولها، ومن ثم التفاعل معها والاستفادة منها برؤية تنشد الطموح والتنافس المحمود وتحقق الوسطيَّة التي هي سبيل شهادة أمتنا على جميع الأمم كما قال جلَّ شأنه (وكذلك جعلناكم أمّــةً وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول عليكم شهيدا) {سورة البقرة، آية رقم 143 }، أي: و(كذلك) كما هديناكم إليه (جعلناكم) يا أمة محمد (أمّــةً وسطاً) خياراً عدولاً، (لتكونوا شهداء على النّاس) يوم القيامة أنّ رسلهم بلّغتهم، (ويكون الرسول عليكم شهيداً) أنهُ بلّغكم.
وإذا فقِه المتخصص التربوي طبيعة هذه الأمور وقيّم حاجة المجتمع الإسلامي لها، استطاع أن يوظفها في الحاضر بقدر حاجة المجتمع، ويستشرف المستقبل بنظرةٍ جديدةٍ وتخطيطٍ سليمٍ.
وبما أنه قد يستجدُّ في الواقع المعاصر وقائع ،ونوازل فقهيَّة ؛تحتاج إلى إصدار حكمٍ شرعيٍّ عليها؛ ففي مقابل ذلك هناك نوازل ومستجداتٌ تربويَّة معاصرةٌ تحتاج إلى كيفيَّةٍ ،ممنهجةٍ، مؤصلةٍ للتعامل معها. و عليه فقد اختارت الباحثة دراسة و معالجة هذا النوع من النوازل ؛من خلال أطروحة الدكتوراه الحالية ووسمت دراستها بعنوان: (منهجية التعامل مع النوازل التربوية دراسة تأصيلية ) .فإن أصابت في تأصيلها و تكوين منهجيتها ؛فمَحْضُ فضلٍ و منّةٍ من الله سبحانه؛ و إن جانبت الصواب فمن نفسها و الشيطان؛ و شعارها في هذا العمل ما ذكره الله جل في علاه على لسان نبيه شعيب عليه السلام (قال يا قوم أرأيتم إن كنتُ على بيّنةٍ من ربّي ورزقني منه رزقاً حسناً، وما أريد أنْ أُخَالِفَكم إلى ما أنهاكم عنه، إنْ أريدُ إلاّ الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكّلتُ وإليه أنيب) {سورة هود، آية رقم 88}.