تابع خطوات التدرج مع النفس:
إن الخطوة الثانية من خطوات التدرج مع النفس بعد التخلية والتخلص من العادات السيئة هي :
ثانيا: اكتساب صفة جيدة جديدة
إن اكتساب العادات الجيدة والتحلي بها , والتزين بالأخلاق الفاضلة يتطلب نوعاً من الحزم والتصبر على التأديب والممارسة , والتدريب والمجاهدة , لتكلف العادة الجديدة والصفة الحميدة , ومع مرور الوقت تصبح أمراً معتاداً , فكل عادةٍ خيرةٍ إيجابيةٍ تُكتسب تزاحم العادة السلبية السيئة وتحل محلها , حينها تتكون للنفس هيئة راسخة وملكة ثابتة ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ الله وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ من الصَّبر ) رواه البخاري .
يقول العيني رحمه الله في شرح الحديث : ” من يتصبر : أي من يعالج الصبر وهو من باب التفعّل , فيه معنى التكلف , يصبره الله : أي يرزقه الله صبراً ” .
فعندما يتكرار تكلف العادة الجديدة والسلوك الإيجابي الحميد يضمر الطبع السلبي ويختفي فيما بعد , ففي الحديث : عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، من يتحرَّى الخير يعطه ، ومن يتقَّ الشر يوقه )
ومعنى ذلك : أن من يتحرى الخير ويتتبع مواطنه ويحرص على اكتسابه يوفقه الله تعالى له , إذا صدق في الالتجاء إلى الله تعالى وطلب العون والتوفيق والتسديد منه سبحانه .
يقول الغزالي رحمه الله : “من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طالب فقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم , وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلاً قليلا حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه ”
ومعنى ذلك أن الأخلاق الفاضلة والعادات الطيبة والسلوكيات الجيدة تُنال وتكتسب بالتخلق والتكلف حتى تصير سجيةً وطبعاً “وذلك لأن في الإنسان استعداداً فطرياً لإيلاف ما يتكرر عليه مرة بعد مرة ، ومن ألف شيئاً أحبه وشعر بالحاجة النفسية إلى معاودته , وهكذا تتكوّن العادات حتى تكون كالأمور الفطرية في النفس …فمن اعتاد إكرام الضيف , ونشأ في بيئة تُشجع عليه وتثني على فاعله وتمجده , فإنه يجد راحته النفسية في ذلك , ولو كان أصل طبعه البخل .”
مثالٌ تطبيقي :
حين يغلب على طبع الفرد مثلاً الإفراط من مشاهدة التلفاز والاستمتاع والتلهي به , والانصراف عن بعض الأمور النافعة , ويريد التخفيف من كثرته أو التغيير من طبعه السلبي فينبغي عليه ما يلي :
– أن يستحضر آثاره العاجلة والآجلة عليه ليدرك مدى تفريطه ويعزم على تغيير سلوكه .
– أن يصدق في اللجوء إلى الله تعالى وطلب العون والتسديد منه سبحانه .
– ثم يقوم بتدقيق النظر في الصفة المراد تغييرها ألها ضد مناسب ليستعمل معها طريقة الإبدال , أم هي من الصفات التي ليس لها أضداد حسنة تحل محلها , فعند النظر في هذه العادة نجدها من العادات التي ليس لها ضد يناسب أن يحل محلها , وفي هذه الحال عليه أن يستعمل معها طريقة المزاحمة والتضمير , عن طريق تكوين العادات الجيدة وتنميتها للتضييق على العادات السيئة , لتضمر تلك العادة وتقف عن النماء وتزول فيما بعد لأن العادة الجيدة قد احتلت مكان نموها .
– ثم يجتهد في تحديد العادة الجيدة التي يرغب في التحلي بها والتضييق بها على العادة السيئة لديه لتحل محلها , وعلى سبيل المثال : من العادات الجيدة والجادة التي يحسن مزاحمة العادة السيئة بها في هذا المثال : عادة القراءة مثلاً , فعند ممارستها ومع مرور الوقت يضمر الطبع السلبي وتحل القراءة محل المشاهدة .
– ثم ينظر في عادة الإفراط من متابعة التلفاز هل هي من الآفات الضارة جداً والتي تسبب له ولمن حوله الكثير من المضار العاجلة والآجلة أم لا , ليتم تقدير زمن علاجه هل يكون على الفور أم لا بأس من التريُّث والتروي معه ومعالجته بالتدريج مع مرور الوقت , وعند النظر فيما سبق يُلاحظ أن هذه العادة لا بأس من التريث في علاجها بحيث يقلل أولاً من ساعات المشاهدة ويضيق عليها ببعض الأنشطة المناسبة وهكذا حتى يتمكن من السيطرة عليها بالتدريج , ومع التعود والتكرار وبمرور الوقت ينمو الطبع الإيجابي ويترسّخ ويزداد , كنمو عقل الإنسان , يزداد مع الوقت وكثرة الاطلاع وتعدد الخبرات وطول الزمن , كلما كَبُر وتقدم يزداد تعقلاً وهكذا حتى تصبح عادة قراءة الكتب الجيدة طبعاً من طباعه التي انطبعت في فطرته وترسخت في وجدانه مع مرور الزمن وكثرة الممارسة ومحاولة التكلف والتطبع والتمرين والتعويد بالتدريج شيئاً فشيئا فإذا حاول وجاهد نفسه حصل له ما يريد بإذن الله لاسيما إن صدق في اللجوء إلى الله عزّ وجلّ .