اإن معرفة الآداب الإيمانية والتحلي بها ، يعد من أوجب الواجبات على المعلم ، ذلك لما لها من قيمة كبيرة في بناء شخصيته العلمية والدينية ؛ فيعرف الحق ويؤمن به ويعمل به ويدافع عنـه ، ويعرف الخير ويحبه للناس كما يحبه لنفسه ، ويتحمل تبعته في إصلاح الفساد والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتضحية بالنفس والمال في سبيل نشر الحق ، كما أنها تنمي في الإنسان مجموعة من المبادئ والقيم ، وعليها يبنى ما بعدها من آداب، فالمعلم المؤمن ترتقي أخلاقه ، ويظهر أثره في مجتمعه بقدر ارتقاء إيمانه ، ويهبط سلوكه وينخفض عطاؤه التربوي بقدر ضعف إيمانه، فعلى المعلم أن يحرص على هذه الآداب ، ليثمر له ذلك زكاء في نفسه ، واستقامة في سلوكه ، وقبولاً عند الله ثم عند الخلق ، فيظهر أثره واضحًا على المتعلمين وغيرهم ، ويكون مشعلاً يضيء لنفسه وللآخرين ، فتؤتي بذلك العملية التعليمية أكلها كل حين بإذن ربها ، ويتحقق البناء التربوي المأمول للأجيال الصاعدة ؛ فتنشأ مصبوغة بالصبغة الإسلامية في أقوالها وأفعالها واعتقاداتها ، ومن ثم تعود للأمة الإسلامية مكانتها وسؤددها بين العالم أجمع . ويمكن إيضاح تلك الآداب فيما يلي :
أولا: الإخلاص لله تعالى :
إن الإخلاص لله سبحانه وتعالى أهم الأمور التي يجب على المعلم العناية بها ، إذ أنه ركن العمل وأساسه ، وبصلاحه يكون صلاح العمل ، وبفساده يكون فساد العمل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
والمراد بالإخلاص إفراد الله سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، فهو يريد بعمله وتعليمه وجه الله وحده ، لا رياءً ولا سمعةً ولا ثناءً ولا منصبًا ولا ارتفاعًا على أقرانه ولا أي حظ من حظوظ الدنيا ؛ لأن قبول العمل متوقف على الإخلاص لله تعالى كما قال سبحانه : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين).
ولعل مما يعين المعلم على إخلاص النية لله سبحانه ما يلي :
أ-مجاهدة النفس ومحاسبتها على الإخلاص في كل لحظة ، يقول سليمان بن داود
الهاشمي: (ربما أحدث بحديث واحد ولي فيه نية ، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي ، فإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات)، فالأمر لا يتم إلا بالمجاهدة والمحاسبة المستمرة للنفس ، ولذلك ورد عن كثير من السلف أنهم قالوا : (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله).
ب-الخوف من عدم الإخلاص ، لأنه عمل قلبي تدخل عليه كثير من الأمراض الخفية ، والشهوات النفسية ، والبواعث الدنيوية التي لا يسلم منها إلا من وفقه الله تعالى، فإن الإنسان إذا خاف من شيء عمل على تجنبه ؛ وقال عبده بن أبي لبابة: (أقرب الناس إلى الرياء آمنهم منه).
ويجدر التنبيه هنا إلى تحذير المعلم من ترك التعليم والتوجيه بحجة عدم الإخلاص ، لأن هذا مدخل من مداخل الشيطان يلبّس به على كثير من المعلمين والدعاة والمرشدين ليصدهم عن هذا العمل الجليل ، ويصرفهم عنه.
ج-عدم محبة الشهرة والظهور أو الارتفاع على الأقران أو التكثر بالمسائل ، وإنما أُفرد هذا مع دخوله فيما قبله ؛ لأنه من أعظم ما يصد عن الإخلاص . يقول بشر بن الحارث الحافي: (لا تعمل لتذكر ، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة).
بل إنهم كانوا ينهون تلاميذهم عن ذكرهم وإطرائهم فيقول مجاهد لطلابه :
(لا تنوهوا بي في الخلق).
فإذا تعلم المعلم وعلّم ودعا إلى الله مخلصًا له سبحانه ثم أثنى عليه الناس ، وبدأ صيته ينتشر فإن هذا لا يؤثر في إخلاصه ، فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : ” قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ، ويحمده الناس عليه ؟ قال : تلك عاجل بشرى المؤمن ” .
قال النووي : ” معناه : هذه البشرى المعجلة له بالخير ، وهي دليل على رضا الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق . . . ثم يوضع له القبول في الأرض ، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم ، إلا فالتعرض مذموم “.
د-ازدراء النفس وعدم الإعجاب بعملها :
فمهما كان الإنسان محسناً في عمله فلا بد أن يتطرق إليه شيء من النقص ، وما إحسانه إلا بتوفيق من الله ، فالأولى أن يشكره على هذه النعمة ، لا أن يعجب بنفسه ، ويفتخر بها وكأنه يمن على الله تعالى ، قال مالك : ” إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه “؛ ويقول مسروق : ” كفى بالمرء جهلاً أن يعجببعمله “.
فالواجب على المعلم الحذر من العجب ؛ إذ هو داء خفي يسري في نفوس المعلمين والفقهاء والمنفقين والمجاهدين وغيرهم ، ومن أماراته الفخر والخيلاء وازدراء الآخرين ، نعوذ بالله من ذلك.
ويمكن معالجة العجب بالنفس بما وجه إليه الشافعي – رحمه الله – بقوله : “إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضى من تطلب، وفي أي نعيم ترغب ، ومن أي عقاب ترهب ، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله “.
وللموضوع بقية…