خطوات تربية النفس عبر أسلوب التدرج
إن تربية النفس ينبغي أن يكون عبر خطوات متدرجة يُبنى بعضها على بعض , بحيث تمهد كل مرحلة للمرحلة التي تليها , ليتمكن الفرد من مسايسة نفسه وملاطفتها ونقلها من الدنو إلى العلو بالتدريج .
خطوات تربية النفس عبر أسلوب التدرج :
إنّ أول مرحلة في علاج وتزكية النفس وإصلاحها وتطوير الذات والرقي بها هو :
أولا: لتخلية والتخلص من صفة ذميمة وعادة سيئة :
والطريق إلى إصلاح النفس والتخلص من العادات السيئة والصفات الذميمة لا يحصل إلا من خلال توافر الأمور التالية :
– التوعية والتبصير بالأخطاء من خلال الغير , أو محاولة اكتشافها من خلال الذات .
– ومن ثمّ يتم التعرف على الأخطاء الذاتية والاعتراف بها .
– وبعدها يُعقَد العزم على تغييرها وتطهير النفس مما علق بها من رذائل الأخلاق وسفاسف الأمور.
وتود الكاتبة أن تنبه إلى أنّ النفوس خُلقت لتفعل لا لتترك , فالقصد الفعل وليس الترك , ولكن المقصود من الترك والتخلص في أول مرحلة من مراحل التربية : هو إزالة العوائق التي تعلق بالنفس , وتعيق المرء عن التحلي والتعود على العادات السليمة , فإتباع هذا الأسلوب في التدرج مع النفس هنا لتنقيتها وتطهيرها قبل تحليتها وتزيينها , وهو بمثابة الطهارة للجسد قبل الشروع في أداء العبادة وكالوضوء قبل البدء في الصلاة مثلاً .
وهذا الأسلوب مستنبطٌ من كتاب الله تعالى , ومما يدل على ذلك قوله تعالى في كتابه الكريم :
(لَا إِكْرَاهَ فِيْ الدِّينِ قَدْ تَبَيّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَاغُوُتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَالله ُسَمِيْعٌ عَلِيْمٌ ) البقرة 256
” فبدأ الله عز وجل بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله , لأن من كمال الشيء إزالة الموانع قبل وجود الثوابت ولهذا يقال : التخلية قبل التحلية .”
فبقدر التخلية من الرذائل تكون التحلية بالفضائل، وبقدر التصفية من المساوئ تكون الترقية والرفعة في الدرجات .
مثال الصفات السيئة: الكبر, الغفلة، الحسد، الخوف، التكاسل، العجلة .
ومثال الصفات الحسنة: الصبر، الشجاعة، الجود, السماحة, الحلم .
فتزكية النفس تتحقق بأمرين:
أولا: التخلية : عن طريق تطهير النفس بالتخلِّي عن الآفات ، ودنيء الأخلاق والرذائل .
ثانيا: والتحلية والتنمية : وذلك عن طريق تنميتها بالطاعات ، و الفضائل .
فتزكية النفس يكون بالأمرين معاً فلا غنى لأحدهما عن الآخر , كما أن التخلي من الآثام والمساوئ سابقٌ على التحلي بالطاعات والمكارم ” فإن التزكي هو التطهر و التبرك بترك السيئات الموجب زكاة النفس كما قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ( الشمس :9 ) ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء والزيادة, وتارة بالنظافة والإماطة, والتحقيق أن الزكاة تجمع بين الأمرين إزالة الشر و زيادة الخير ”
وإن المقصود بتزكية النفس في الآية السابقة يختلف عن المقصود بالتزكية في آية النجم في قوله تعالى :
) فلا تُزَكُواْ أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن اِتَقَى } ( النجم : ٣٢ )
فالنهي في هذه الآية عن التزكية بالقول وهو مدح النفس والثناء عليها أمام الآخرين , أما التزكية بالفعل كما في سورة الشمس فهو المقصود هنا , ويكون عن طريق التخلية ثم التحلية وهذا طريق مشروع بل هو مقصود لذاته .
بعض القواعد المهمة واللازمة لمرحلة التخلية وهي كالتالي :
أنّ التخلية قد لا تستلزم التحلية دائماً , لأن بعض العادات الذميمة ليس لها بديل يقابلها ليحل محلها كالتدخين مثلاً , لذلك تختلف طريقة معالجتها :
– فالأخلاق السيئة والعادات الخاطئة التي لها بديل مناسب يحل محلها تُستعمل معها طريقة الإبدال بمعنى يستبدل الخلق السيئ بخلق حسن , فالسخاء بدل البخل , وهكذا في بقية العادات والأخلاق التي لها أضداد .
– أما العادات التي ليس لها بديل جيد يحل محلها كالتدخين فليس الحل معها هو الإبدال , وإنما تُستعمل معها طريقة المزاحمة والتضييق عن طريق تكوين العادات الصحيحة وتنميتها للتضييق على العادة السيئة لتضمر تلك العادة وتقف عن النماء ثم تزول فيما بعد لأن العادة الجيدة قد احتلت مكان نموها .
إنّ الفرد المسلم حين يريد التخلص من العادات السيئة ومعالجة الأخطاء فعليه أن يعلم أنها متفاوتة في نوعيتها ودرجة ضررها ولذا يختلف زمن معالجتها :
– فبعض العادات يجب قطعها من جذورها وعدم التريث والتأني معها مثل : آفة الكذب , أو الغيبة .
– وبعضها يتم تغييرها على مراحل متدرجة مع مرور الوقت , حيث يُبدأ بالتقليل منها في أول الأمر وهذه المرحلة تُعد أول مراحل التعديل ثم يتم التخلص منها فيما بعد , ومن الأمثلة على تلك العادات : عادة السهر بالليل أو الإكثار من النوم في النهار , أو العجلة , أو الخجل .
إن مرحلة التخلية والتخلص من العادات السيئة التي اعتاد عليها الفرد فيما مضى من وقته قد
يصاحبها بعض المشقة , فقد يكون اكتساب السلوكيات الجيدة والأخلاق الفاضلة في المراحل الأولى صعباً على النفس نظراً لمفارقتها ما ألفته واعتادت عليه , لذا ينبغي التنبه إلى هذا الشعور العارض الذي سيزول فيما بعد , فيجب ألا يثني عزيمة الفرد ويجعله يتراجع عن التغيير , فسيستغني عمّا ألفه , وسيسهل عليه ترك ذلك الأمر شيئاً فشيئا , حتى يصل إلى أن يكون ممتعاً للنفس ومسعداً لها .
لذا يقول ابن القيم رحمه الله : ” إنما يجد المشقة في ترك المألوف والعوائد من تركها لغير الله ، أما من تركها مخلصاً من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب , فان صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة ” مراحل تطبيقية للتمكن من تنفيذ الخطوة الأولى من خطوات التدرج مع النفس بإتقان :
إن أول مرحلة من مراحل العلاج للتدرج مع النفس نحو الأفضل هي مرحلة التعديل ومعنى ذلك أن الفرد إذا اتصف بصفة سيئة وأراد علاجها والتخلص منها فعليه :
– أولاً: أن يتذكر مساوئها ويستحضر آثارها الدنيوية والأخروية عليه , ليسهل عليه التباعد عنها
– ثانياً : أن يصدق في اللجوء إلى الله تعالى ويطلب العون والتسديد منه سبحانه .
– ثالثاً : أن ينظر في الصفة التي يريد علاجها أهي من الصفات التي لها أضداد حسنة تحل محلها أم ليس لها أضداد , وذلك لأن طريقة المعالجة تختلف باختلافها كما بينت ذلك سابقاً .
– رابعاً : عليه أن ينظر إلى نوعية الصفة المراد تغييرها ومدى ضررها عليه وعلى من حوله ليحسن تقدير وتحديد الزمن الكافي لتغييرها لأن بعض العادات لا بأس من التروي والتريث معها وتغييرها مع مرور الوقت وبعضها لا يحتمل التأجيل وتبعاً لذلك تختلف مدة معالجتها .
مثالٌ تطبيقي :
عند اتصاف الفرد بصفة الكذب مثلاً , عليه أولاً أن يستحضر آثاره السيئة الدنيوية والأُخروية , فمن آثاره الدنيوية:بغض الناس للكاذب وعدم الثقة فيه , محق بركة الرزق , الضيق والقلق وعدم الطمأنينة .
ومن آثاره الأخروية ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( … َإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ) رواه مسلم .
فإذا أراد علاجه وعزم على تغييره والتخلص منه ينبغي عليه أن يصدق في اللجوء إلى الله تعالى وطلب العون والتسديد منه سبحانه , ثم يقوم بتدقيق النظر في الصفة المراد تغييرها ألها ضد مناسب أم هي من الصفات التي ليس لها أضداد حسنة تحل محلها , فعند النظر في خلق الكذب نجده من الصفات التي لها ضد يناسب أن يحل محله فيستعمل معه طريقة الإبدال أي إبدال الصفة السيئة بضدها لأن لها بديل يحل محلها وهو التحلي بخلق الصدق وإبدال الخُلق الذميم بخُلقٍ حميد , ثم يقوم بالتعديل الفوري وعدم التأجيل والتريث لأن الكذب من العادات الذميمة التي لها آثار سيئة عليه وعلى من حوله من أبناء وآباء وأصدقاء وغيرهم وهو لا يحتمل التأجيل والتريث والتأني في العلاج بل ينبغي التغيير مباشرة .
.