المقدمة :
تُعد السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التربية الإسلامية، والمسلك العملي في بناء الأفراد وإعدادهم، ذلك لأن الله تعالى كلّف نبيه صلى الله عليه وسلم بمهامٍ عظيمة منها التربية والتعليم؛ فقال سبحانه )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(، فقام صلى الله عليه وسلم بذلك أحسن قيام حتى توفاه الله تعالى ، فأخرج أمة هي خير الأمم على مستوى التدين والتخلق والتعلم، لأنها كانت هدفاً لتربية النبي صلى الله عليه وسلم وغرضاً لتعليمه وتوجيهه، فشهد بذلك الصغير والكبير، والمرأة والرجل، والخادم والعبد والسيد، يقول أنس رضي الله عنه : ((خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللَّهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا)، ويقول معاوية بن الحكم السلمي : ((فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَواللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، بل شهد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على نفسه وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فقال ((إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا).
لذا بات من الضروري العودة إلى هذا الأصل العظيم لتحديد المقاصد والوسائل الناجعة في التربية والتعليم .
وفي هذه الصفحة يحاول الباحث قراءة بعض الأحاديث النبوية قراءة تربوية ليستخرج ما يستفاد منها في حياتنا التعليمية والتربوية .
الحلقة الأولى : حديث جبريل:
يُعدّ هذا الحديث العظيم أصلاً من أصول العلم، ومسلكاً رشيداً من مسالك التعليم والتعلّم، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) ، فهو حديث غرضه التعليم، ولذا كان لزاماً معرفة ما علّمه والطريقة التي علّم بها، وقد تجلى ذلك فيما يلي :
بيّن هذا الحديث الأسس الشرعية التي تحقق حسن التدين، والأصول التربوية التي تبني جوانب الشخصية لكل مسلم، فشملت الأنواع الثلاثة مصلحة الإنسان الدنيوية والدينية.
فالإسلام جاء لمصلحة البدن، وأصولُه في الشهادتين الصلاة والزكاة والصوم والحج، والإيمان جاء لمصلحةِ العقل ، وأصولُه في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، والإحسان جاء لمصلحةِ روحه ، وأصله في إشباع الروح بالحب والخوف والرجاء .
أشار هذا الحديث العظيم إلى أن ما يُعلّم ينبغي أن يكون مفيداً وعملياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن الإسلام والإيمان والإحسان لم يكن جوابه مفاهيم تجريدية وتعاريف تخضع لحدود منطقية صرفة لا معنى لها في واقع الناس ، بل فسّر الإسلام بأركانه، والإيمان بأصوله، والإحسان بأساسه، فمن حقّقها فقد حقق أصول الدين وأركانه . وفي هذا تنبيه للمعلمين على ضرورة الاهتمام بالجانب العملي والتطبيقي في التعليم، فلا يُحشى رأس التلميذ بمفاهيم وحدود مجرّدة لا تبني شخصيته ولا تُعدّل سلوكه ولا تصطحبه عند البحث عن حلولٍ لمشكلاته. ولهذا قال الشاطبي رحمه الله : ((كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا) ،وقال أيضا : (( العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه ، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ) وقال ابن خلدون رحمه الله : ((واعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا ، فما طلب اعتقاده فالكمال فيه هو العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف ، وما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف والتحقق بها )
بيّن هذا الحديث أن التعليم عملية تربوية تهدف إلى بناء الإنسان المسلم، فتبدأ بالأسس والأركان قبل الأسقف والجدران، لأن ما استفاده الصحابة من مفهوم الإسلام والإيمان والإحسان في هذا الحديث هو الأركان لا كل الدين، وعليه فإن مراعاة بناء هذه الأصول وغرسها في الأطفال منذ الصغر حتى يشبوا عليها -وقد قوي البناء وقدر على حمل الأعباء – من مستلزمات التربية الإسلامية ومتطلباتها الأساسية . يقول ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله في مقدمة الرسالة : (( وقد جاء أن يؤمروا بالصلاة لسبع سنين ويضربوا عليها لعشر، ويفرق بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يعلموا ما فرض الله على العباد من قول وعمل قبل بلوغهم ليأتي عليهم البلوغ، وقد تمكن ذلك من قلوبهم وسكنت إليه أنفسهم ، وأنست بما يعملون به من ذلك جوارحهم ، وقد فرض الله تعالى على القلب عملا من الاعتقادات وعلى الجوارح الظاهرة عملاً من الطاعات ))
بيّن هذا الحديث أن الطريقة التي علّم بها جبريل الصحابة رضوان الله عليهم هي طريقة فذة ومثلى، حيث اعتمد فيها على الاستجواب أو السؤال والجواب، فالسائل جبريل عليه السلام، ومع ذلك عدّه النبي صلى الله عليه وسلم معلماً ، وفي ذلك دليل على أن طريقة السؤال من المعلّم أو الاستجواب طريقة علمية صحيحة وتعلمية مفيدة؛ لأنها تستخرج المعلومة من أفواه التلاميذ، فتكون أرسخ في الفهم وأبقى على الأثر ، وهو ما تنادي به التربية في العصر الحديث ، وهذا يُنبّه إلى ضرورة أخذ المعلمين بهذا الأسلوب في تدريس المواد التعليمية ، ولا يُقال بصعوبته في المواد الشرعية، فالحديث ردٌّ عليه، وإقرار بجدواه .
بيّن هذا الحديث أن الطريقة التي علّم بها جبريل الصحابة رضوان الله عليهم كانت مثيرة لهم، خصوصاً وقد اشتملت على أساليب الجذب والتنبيه، مما أثار فيهم التشويق ، وحرّك دافعيتهم للتعلم . ومن صور التنبيه والجذب :
مجيء جبريل عليه السلام في نظر الصحابة من بعيد، ولكن لم يُر عليه أثر السفر.
تصديق جبريل عليه السلام لإجابة النبي صلى الله عليه وسلم ((فعجبنا له يسأله ويصدقه)) .
حرص الصحابة على معرفة حقيقة السائل .
طريقة جلوس جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا تنبيه إلى وجوب استخدام المعلمين لأساليب الجذب والتنبيه حتى يثيروا دافعية طلابهم للتعلم، ويشوقوهم للمعرفة والاكتشاف، ويحفزوهم على التجاوب مع ما يُعطى لهم، ويحركوا فيهم حب الاستزادة والتركيز لما يقال .