لقد فقهت الفقيهة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فقه الحب والبغض، وأعطت بعلمها وعملها ما يبين أثر التربية النبوية العظيمة على سلوكها، ومن ذلك أنها رضي الله تعالى عنها تقول في أحد الصحابة الذين خاضوا في حادثة الإفك، مارواه عروة: (كانت عائشة تكره أن يُسَبَّ عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء)
فأي موازنة لفقه الحب والبغض ابلغ من هذه الصورة في فقه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم يمنعها غضبها مما قيل فيها أن تحفظ قدراً من الاحترام للصحابي الجليل نظير ما قاله من فداء صادق العبرات والألفاظ والأفعال تجاه رسوله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين الطيبين.
وكم من الناس يغمط بعض المخلصين حقوقهم ومعروفهم تحت وطأة البغض الذي لا مبرر له أحيانا، إلا أن تكون أسباباً نفسية، هي أهون من بيت العنكبوت، كالحسد أو الكبر، أو تصورات وظنون لا حقيقة لها.
وكم من يغمط أهل الفضل فضلهم، وأهل المراتب مراتبهم، وأهل الإحسان أحسانهم، دونما مبرر وجيه. فكيف لو كان المبرر وجيهاً فهل يتمثل بما تمثلت به أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
وكم يهضم الأصدقاء أصدقاءهم، ويبعض أهل العلم بعض نظرائهم، والطلاب حقوق معلميهم، والأقارب معروف أقاربهم وكم…وكم…وكم…
ومن موازنة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لفقه الحب والغيرة، ما ذكرته من حالها مع أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. حيث تقول (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم إياها) وبالرغم من غيرتها إلا أنه لم يمنعها ذلك من أن تذكر منزلتها ومكانتها ومناقبها حيث روت (وأمَرَه رَبُه عز وجل أو جبريل عليه السلام أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب) فرضي الله عنها لم تكتم ذلك نتيجة الغيرة، بل أظهرته وروته للناس.
وكم من الناس من يغمطون مناقب غيرهم نتيجة الغضب والغيرة والحسد، وربما تأولوا تلك المناقب الحسنة، إلى سيئة بتعليلها وإخراجها عن حقيقتها الساطعة لتخرج صورة باهته.
إن فقه الحب والبغض علم غزير يتحقق للمرء بالعلم وتربية النفس على الخير ومكارم الأخلاق، والترفع عن مساوئ الأخلاق، والتي منها الحسد والكبر الذي يظهر في غمط أهل الحق حقوقهم المعنوية، التي قد تكون أشد في غمطها من الحقوق المادية، لأن الماديات محسوسة لا يستطيع المرء نكرانها أو تجاهلها، بينما الحقوق الأدبية والمعنوية يمكن تجاهلها من الحاسدين إلا ممن صفيت صدورهم وعلت شيمهم.
اللهم يا ربنا وخالقنا ومعلمنا علمنا وارزقنا حسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لها إلا أنت، وبصرنا اللهم بعيوبنا وارزقنا إصلاحها، وأعنا على ذلك بفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين.