ـ ومن سُبُل انتشار التعليم، الإفادة من أسرى بدر؛ ممن يعرف القراءة والكتابة، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يُعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة)فيؤكد هذا العمل سماحة الإسلام، واستثماره للمنافع والقدرات، والاهتمام بقضية التعليم، والحرص على تعلم الصبيان، ولعل في ممارسة هذه العملية التعليمية من الأسير ما يجعله يشاهد الممارسات الخُلُقية العالية والرفيعة من المسلمين؛ فيدفعه ذلك إلى اعتناق الإسلام. كما يوضح هذا الصنيع الأهمية التعليمية في الإسلام؛ إذ جعلها ثمناً لإطلاق سراح الأسير.
ـ ولقد كان لأهل الصفة أثر كبير في النقلة العلمية والتعليمية، لاهتمامهم بهذا الجانب اهتماماً عظيماً، فأكثر رواة الحديث أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان من أهل الصفة الذين اتخذوا من مؤخرة المسجد مكاناً ومأوى لهم. ويصف أبو هريرة رضي الله عنه حاله وما بذله من جهد في الكسب العلمي من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول عندما سمع من يقول أكثر أبو هريرة (…وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشَبَعِ بطنه، ويحضرُ ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون) فقد بين رضي الله عنه حضوره ومتابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليحفظ عنه .وكان عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول (علَّمتُ ناساً من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فأهدى إليَّ رجل منهم قوساً) فبين الصحابي الجليل عبادة بن الصامت ما كان يقوم به من عمل تعليمي بين أهل الصفة. مما يوضح الجهد الذي أعطى وأسهم في النقلة التعليمية والعلمية المباركة من أهل الصفة. خاصة وأن عددهم ليس بقليل، فقد كانوا في حدود السبعين رجلاً،وبالرغم من انقطاعهم للعلم والعبادة فلم يعزلهم ذلك عن المشاركة في أحداث المجتمع والإسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر، مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي، وخبيب بن يساف، وسالم بن عمير، وحارثة بن النعمان الأنصاري. ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل. فهكذا جمع أهل الصفة بين طلب العلم والزهد والمشاركة في أحداث المجتمع. ليُعطوا درساً تربوياً لمن بعدهم.
ـ واشتمل التعليم في رحاب المدينة النبوية، على التدريب العسكري، الذي يُقوي الأبدان ويُنشط الأذهان، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما؛ قال( سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي ضُمِّرت فأرسلها من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، فقلت لموسى: فكم كان بين ذلك ؟ قال: ستة أميال أو سبعة، وسابق بين الخيل التي لم تُضَمَّر، فأرسلها من ثنية الوداع، وكان أمدها مسجد بني زريق، قلت: فكم بين ذلك ؟ قال: ميل أو نحوه، وكان ابن عمر ممن سابق فيها) والمقصود بالخيل التي ضُمِّرت: أن تُعلف الخيل حتى تسمن وتقوى؛ ثم يُقلل علفها بقدر القوت، وتُدخل بيتاً، وتُغشى بالجلال حتى تحمى فتعرق، فإذا جف عرقُها خف لحمها وقويت على الجري، وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث؛ بل من الرياضة المحمودة؛ الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو؛ والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة؛ بحسب الباعث على ذلك، قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيره من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام .
وقد شمل تشجيعه التربوي صلى الله عليه وسلم الصبية في ممارساتهم للعب، فعن عبدالله بن الحارث رضي الله عنه، قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبدالله وعبيدالله وكثيراً من بني العباس، ثم يقول: من سبق إلىَّ فله كذا وكذا، قال: فيسبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبلهم ويلزمهم) وفي هذا تعليم وتدريب للصبية وتشجيعاً لهم على ممارسة السباق الذي تتقوى به أجسادهم وأذهانهم، فقد كان عليه الصلاة والسلام هو الذي يَصُفُّهُم، وهو الذي يشجعهم، ثم يقعون على ظهره وصدره، فَيُقَبِّلُهم جميعاً بدون استثناء، فيشمل ذلك الأول والأخير، ويوضح هذا المسلك منه صلى الله عليه وسلم تواضعه ورحمته وشفقته، وأنه النبي الذي تراه مع جميع من يُحيطون به، حتى مع الأطفال الصغار. وهذا يعطي دلالات تربوية وتعليمية عظيمة؛ من أبرزها: التوازن، فلا يطغى جانب على جانب، إذ هو النبي صلى الله عليه وسلم المشغول بأمور الأمة؛ ولكن لم يُشغله ذلك عن الأبناء حتى في الجانب الترفيهي، وكذلك يكون الوالد، فلا تُشغله أعماله الخاصة عن حقوق الأبناء؛ حتى في الجانب الترفيهي، وكذلك الداعية، والمسئول، فيقسم وقته بما يعطي الزوجة حقها والأبناء حقوقهم، وجميع الأطراف المتعلقة به. ومن الدلالات التربوية: العناية بما يحبه الصبية من الأنشطة المباحة التي قد تختلف من زمن لآخر ومن مكان لآخر، وفيه أهمية وحتمية العناية بأمر الطفولة فيما هو أكبر وأهم من ذلك، فالعناية بما هو دونه يحتم العناية بما هو أعلى وأهم. وفيه أهمية تقبيل الصبية؛ والتصابي لهم؛ لما في ذلك من مكاسب نفسية عميقة؛ تنعكس على تصرفاتهم وطباعهم؛ وأخلاقهم وسلوكهم، وفيه أن ملاعبة الصبية حتى وإن كانت أمام الآخرين فإنها لا تقدح في مروءة الإنسان، إذا كانت في الحدود المعتبرة.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على باب حُجرتي والحبشةُ يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستُرُني بردائه أنظر إلى لعبهم) وقالت (وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالَّرَقِ والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين ؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه؛ خدِّي على خدِّه وهو يقول: دونكم يابني أرفِدة، حتى إذا مللت قال: حسْبُكِ ؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي.) وفي هذا الحديث تقريره صلى الله عليه وسلم مبدأ التعليم أو التدريب العسكري، الذي كان يمارسه الأحباش على هيئة ألعاب يمارسونها، ولكن آلتها الرق(الترس) والحراب، بل كان عليه الصلاة والسلام يشجعهم على هذه الممارسة التدريبية بقوله ( دونكم يا بني أرفدة) قال ابن حجر: وفيه إذن وتنهيض لهم وتنشيط. وبني أرفدة، بفتح الهمزة وكسر الفاء، وقد تُفْتح، قيل هو لقب للحبشة، وقيل هو اسم جنس لهم، وقيل اسم جدهم الأكبر، وقيل المعنى يا بني الإماء. وسيأتي المزيد من بيان الفوائد في مكانه بإذن الله تعالى.