الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين وبعد:
لله تعالى الحكمة البالغة في أمره ونهيه وأخذه وعطائه ومنعه، وفي ثوابه وعقابه، قال تعالى (إن الله يفعل ما يريد)
وقال تعالى (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألون )
ولله الحكمة الباهرة في تدبيره التي تتجلى فيها قدرته وحكمته وحلمه التي تستوجب التوقف عندها تأملاً وتدبراً وتأدباً وتعبداً له وحده لا شريك له.
ومن ذلك عظيم تدبيره وتعامله مع من يعصيه ويتطاول في ملكه عليه، جحوداً وتكبراً وتجبراً.
فقد أمر الله تعالى أم موسى أن تضع ابنها الرضيع في التابوت، ثم تقذفه في اليم (أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم) ثم أمر القاهرُ فوق عباده البحرَ أن يلقيه بالساحل (فَـلْــيُـلْـقِهِ الـيَـمُّ بالساحل)
لماذا يلقيه اليم بالساحل؟ ليهيء عدواً من أعدائه تبارك وتعالى فيأخذه فرحاً به قال تعالى (يأخذه عدو لي وعدو له)
وليصبح هذا الطفل الذي فرح به آل فرعون حزناً لهم وهلاكاً.
ففي علم آل فرعون أنه مكسب وسرور قد دخل عليهم، وفي علم الله السابق أن فرعون سوف يتكبر ويتجبر على نبي الله تعالى موسى عليه السلام، وسيكون هذا المرغوب هلاكاً لمن رغب في اقتنائه وحفظه، قال تبارك وتعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً)
وبالتالي فإن المؤمن يلزمه أخذ العبرة مما أبانه القرآن الكريم من الآيات والتفصيل في الذكر الحكيم. فما تطلبه من الله تعالى ويمدك به من خير يلزم سؤاله البركة والخير في ذلك، وأن يصرف ما به من شر غائب، وكذلك فيما يفوت المؤمن من خير متوقع يستلهم فيه العبرة، بأن ما منعه الله تعالى ولم يحققه خيرٌ محض. لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، قال تعالى (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
فالله بعلمه وإحاطته يعلم ما يصلح لهذا ومالا يصلح لهذا، وبالتالي هذا يدفع غائلة الحسد من قلب المؤمن، لأنه يعلم أن ما أعطى اللهُ تعالى لفلان قد يصلح له، وما منعه لا يصلح له. فيرضى بما منع عنه، ويفرح بما أعطاه ربه لغيره من عباده.
وحكمة الله تعالى تتعدد، وعقابه يتكرر في حق الظالمين الجاحدين كما فعل بفرعون ومن كفر معه، فيعطي الله تعالى الهالك من الكفار ما يحب ويستبشر به، حتى إذا بلغ الفرح ذروته أخذه بما يحب أخذ عزيز مقتدر، فكان ما أحبه وبالاً وشراً عليه، وبالتالي لا يغتر المسلم بما يكون فيه وعليه أولئك الكفار، فيقلدهم ويقتدي بهم ويسايرهم في ملذاتهم ومعاصيهم، وهذه آية مماثلة لما قبلها مع فرعون بما تضمنته من فرح العاصي بما يحب، الذي هو في علم الله تعالى يحمل ضد ذلك الحب والفرح، قال تعالى ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة)
وقال تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان) إنه الفرح بالمعاصي الذي قد ينحرق به العاصي.
وقال تعالى (فلما جاءتهم رُسُلُهُم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون) إنه الفرح بعلم الدنيا، بالعلم المادي وطغيانه، وتركوا علم الآخرة، قال تعالى ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) كما قال الإمام القرطبي رحمة الله عليه: يعني يعلمون أمر معايشهم ودنياهم، متى يزرعون ومتى يحصدون، وكيف يغرسون وكيف يبنون، قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وقال الضحاك: هو بنيان قصورها وتشقيق أنهارها وغرس أشجارها.(أ.هـ) وأهملوا وتكبروا على ما جاءت به الرُسُل من العلم الأخروي الذي يُخرجهم من الظلمات إلى النور، ويحقق لهم خير وسعادة الدارين.
اللهم انفعنا بما نقرأ ونكتب ونتعلم واجعله قوة وعوناً لنا على طاعتك. وخذ بأيدينا لما تحبه وترضاه، واجعلنا من المهتدين الصالحين المصلحين، وارزقنا الأدب مع حكمتك وتدبيرك، ووفقنا لما تحبه وترضاه.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.