الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين:
لقد امتن الله تعالى على لقمان بالحكمة فقال تبارك وتعالى ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) وقال تعالى مبينا أهمية الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتيا خيراً كثيراً )
ولقد جاء في الحديث ( ما أنت محدث قوما حديثا لاتبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة)
وفي هذا الحديث دليل على أهمية الحكمة في محادثة الناس بالعلم والمعرفة والأخبار , حتى لا يُدخل عليهم معرفة أو خبراً فيكون عليهم وبالاً في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً .
من نعم الله تعالى على خلقه أن وهبهم العقل ليفكروا به فيما يدخل عليهم من متغيرات أو ما يعتريهم من أحداث , قد لا يتطلب علاجها نصا ببيان وإنما يتطلب روية و تأمل لمآلات القرار , ولمقاصد الشريعة الغراء من الحياة والاجتماع بين الناس والأفراد، فينظر فيها للحكمة وفصل الخطاب .
والحكمة قد تحصل بالتأمل في المآلات قبل اتخاذ القرار , والتبصر فيما ستؤول إليه النتائج قبل الحصول , ووضع كافة الاحتمالات في منأى عن العواطف والأهواء
وعندما تغيب الحكمة يأخذ الهوى والعاطفة الركن الأساس في اتخاذ القرار, ويأخذ الحزم حده في غير موضعه السديد, فيأتي بما لا تشتهي النفس ولا العقل الحصيف.
فتأمل في النصف الأول من هذا الموقف العجيب.دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه. وقال: ” يا أمير المؤمنين: ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك,
إن هذا الرأي المملوء بالحزم وقوة الإرادة في طاعة الله تعالى دفع عبد الملك بن عبد العزيز إلى هذا القرار , وعلى أن يتحمل تبعاته حتى ولو طاله التعذيب والتنكيل .
ولكن محبته لطاعة الله تعالى لم تكن كافية ليكون قراراً صائباً في نتائجه , فلعل قلة الخبرة غيبت عنه أضرار ذلك الرأي الذي كان واضحا جليا عند والده عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه , حيث نظر للأمر من زواياه وأبعاده ومآلات ومقاصد الشريعة الغراء. فقال لابنه:
يا بني : إن قومك – من قبلي من الولاة _ قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة , وعروة عروة , متى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء , أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوما من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعه , ويحي فيه سنه , حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين ” , وفي رواية أنه قال له : ” لا تعجل يا بني , فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة , وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة , فيدفعونه جملة , ويكون من ذلك فتنه ” .
فلقد قام عمر بن عبد العزيز بتحليل الموقف تحليلاً حكيماً , مراعياً فيه الاعتبارات التي يجب أن تراعى , وناظراً إلى النتائج التي قد تترتب على ذلك من سفك للدماء، فيكون سببا فيها , لعلمه بحرمة الدماء وعصمتها ومخاطر حصولها ؛ وما ينجم عنها في حق الله تعالى وفي حق المسلمين.
ثم ينظر رحمة الله عليه لأمر آخر وهو أن ولايته وصبره وسيلة تمكنه من طاعة ربه تبارك وتعالى في تحقيق التوحيد، وإماتة البدع, وإحياء سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الموقف ينعكس على من تأمله بأهمية رؤية الأمور بحكمة بالغة , فإن للأمور مغبات وأحداث ومآلات , فيلزم مراعاتها حتى يصيب الحكمة وفصل الخطاب. وهو ما يلزم أن يقوم به الفرد تجاه تربيتهلنفسه ولغيره ممن يلزمه توجيههم وتربيتهم.
ونسأل الله تعالى بمنه وتوفيقه أن يرزقنا الحكمة وفصل الخطاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.