إن قوة التربية لا ينحصر ظهورها في محتواها النظري، بل تتأكد في تطبيقاتها العملية، وفي مدى فاعلية تأثيرها على أفرادها.
وقد تمثلت المضامين التربوية في المنهج النبوي الكريم التي يقف عندها العقل إكباراً وإجلالاً. فإذا أبحر في بحر فاعلية تأثيرها على أفراد الأمة رأى في مساحتها الواسعة القدرة المذهلة الفائقة في الارتقاء بالآخذين بها إلى أعلى درجات الكمال الإنساني؛ الذي يمكن أن يبلغه الفرد.
وصورة ذلك في هذا المشهد العظيم؛ الذي يبين أثر تلك التربية النبوية العظيمة التي صنعت في أتباعها قدراً عظيما من التواضع للحكمة والفكرة الفذة، دون تعند أو تكبر واستنكاف، أو تردد وتلعثم. وهو الأمر الذي يقوى به القرار الفردي أو الجماعي، ويؤتي أكله بإذن الله تعالى في أي مجال من المجالات الإدارية أو الأسرية أو الاقتصادية والسياسية.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كنت أقرئ رجالا من المهاجرين ، منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى ، وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها ، إذ رجع إليَّ عبد الرحمن فقال : لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم، فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك في فلان ؟ يقول : ” لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ، فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ” ، فغضب عمر ، ثم قال : “إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم” . قال عبد الرحمن : فقلت : ” يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لا يعوها ، وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت متمكنا ، فيعي أهل العلم مقالتك ، ويضعونها على مواضعها” . فقال عمر : “والله – إن شاء الله – لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة …..)
يبين هذا الموقف المتألق بالفكرة الناضجة، والتواضع الجم في قبول الفكرة دون تلعثم أو تردد. لتتلاحم قوة الفكرة مع قوة التواضع، فيتحقق هدفاً رائعاً، وينصرف به خلافاً متوقعاً.
فهذا الموقف يوضح عظمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في حكمته وتواضعه التي اكتسبها من منهج الإسلام الذي تربى عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم يقل رضي الله عنه : أنا عمر بن الخطاب، أنا الخليفة ، أنا صاحب مناقب كثيرة ، فكيف آخـــذ برأي غيري وأنا أحمل جميع هذه المؤهلات القوية ؟
لكنه قابل قوة الفكرة من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بقوة التواضع، حيث يقول مباشرة : ( والله – إن شاء الله – لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة ) . ويربط كل ذلك بمشيئة الله تعالى .
كما يبين هذا الموقف توفيق الله تعالى لعبد الرحمن بن عوف بهذا الرأي الحصيف والفكر العميق الذي أبداه ببداية رائعة، فكان مطلعها تحليل الموقف إذا كان، وما سيؤول إليه الأمر، ثم أوضح علل ودواعي التأجيل. مبينا بهذا الرأي أهمية فقه مآلآت الأمور التي هي من لوازم الحكمة الناضجة.
مما يبين أن نجاح المواقف تحتاج إلى اختيار الزمان والمكان المناسبان، وكذا اختيار الملأ المناسب لاستيعاب الفكرة والمفاهيم، وتقدير الأحوال والتبعات، وهذا كله من مشكاة مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة)
كما يفيد هذا الموقف أن الرأي لا يكون بموافقة أو معارضة الأكثرية من العامة، بل بموافقة الكثرة من العقلاء أولي الألباب من أهل الفقه والعلم والرأي، كما قال ابن عوف رضي الله عنه (فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس) وهم أهل الشورى ، أصحاب الفقه، أصحاب العلم والفهم. وكذا أشراف الناس بعقولهم ودينهم؛ ومراعاتهم لمصالح الأمة .
كما يفيد هذا الموقف أهمية الحذر من بعض المآلات. وأن الأمة مهما كانت درجة صلاحها قد يحدث فيها الخطأ؛ لأنها طبيعة بشرية، ويلزم الأخذ بالأحوط والأفضل. وهذا يتطلب أهمية سياسة الأمر بتؤدة وتأني، وفيها أهمية إدراك فقه الموازنة، فالتأجيل قد يكون أفضل من التعجيل.
وفي هذا الموقف ما يدل على أن منهج الإسلام يعطي الرأي حقه ولا يعطله، ويستوعب إبداعات الرأي الحصيف من ذوي الحجا، وما ينطقون به من الحكمة ومن حُسن التدبير. وأن الإسلام يستوعب الخلاف بحكمة العلاج.
وفيه كذلك من الفوائد: أهمية المبادرة بالرأي لولي الأمر وللرؤساء المباشرين ممن له علاقة مباشرة معهم. وأن أخذهم بأفكار من هم دونهم من مرؤوسيهم لا يقلل من قدرهم ومنزلتهم، وفيها أن النجاح يتحقق بعد توفيق الله تعالى بالتواضع للأفكار الصائبة، وأن الأخذ بها يحقق الفلاح والنجاح.
وفيه كذلك أن من أشار برأي لا يذيعه، حتى يحفظ حقوق من أشار عليهم بمشورة؛ سواء أكانت حقوقاً أدبية أو غيرها. لما قد يترتب على إذاعتها ونشرها من المفاسد.
وبهذا يتبين أن مدرسة النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد أخرجت جيلا ورجالا أفذاذاً، لو أنفق من جاء بعدهم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى لله عليه وسلم (دعوا لي أصحابي فلو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وفي رواية (لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )