الزواجُ عواطفُ إنسانيَّةٌ ، وأخلاقيَّةٌ ، وروحيَّةٌ .
ومن فوائده : ( أنَّه عمادُ الأسرة الثابتة ، التي تلتقي الحقوقُ والواجباتُ فيها بتقديسٍ دينيّ ، يشعرُ الشخصُ فيه بأنَّ الزواجَ رابطةٌ مقدَّسةٌ تعلو بها الإنسانيَّةُ ).
فهو علاقةُ مودَّة ورحمةٍ ، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) [الروم: الآية21] . ففي الآية بيان على أنّ هناك حكمة ربانيَّة كمنت في نفس الإنسان ، وهي الرحمة والمودة المتبادلة بين الزوجين ، تدفع كلَّ واحدٍ إلى الميل إلى قرينه بدون اختيار منه ) .
والإسلامُ قد اعتنى بتنظيمِ هذه العلاقة ، فجعل لكلٍّ واحدٍ منهما حقوقًا على الآخر ، واعتبر أنَّ الأخذ بها كفيلٌ بسعادة الطرفين وهنائهما. وهي حقوقٌ متبادلةٌ بينهما ؛ فكما أوجبَ الإسلامُ للزوج حقوقًا ، كذلك أوجب للزوجة حقوقًا ، كما قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) [البقرة : 228 ] .
وعن سليمان بن عمرو بن الأحوص قال : حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكَّر ووعظ ، فذكر في الحديث قصةً ، فقال صلى الله عليه وسلم : “ألا واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإنَّما هُنَّ عَوَانٌ عندكم ، ليس تملكون منهنَّ شيئًا غيرَ ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ . فإن فعلن فاهجُرُوهُنَّ في المضاجع ، واضرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ . فإنْ أَطَعْنَكُم فلا تَبْغُوا عليهِنَّ سبيلا . ألا إنَّ لكم على نسائكم حَقًّا ، ولنسائكم عليكم حقًّا . فأما حقكم على نسائكم فلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، ولا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكم لمن تَكْرَهُون . ألا وحَقُّهُنَّ عليكم أن تُحْسِنُوا إليهِنَّ في كِسْوَتِهِنَّ وطَعَامِهِنَّ” .
فلكلّ من الزوجين حقوقًا على الآخر .
ومعرفةُ هذه الحقوق سبيلٌ لإيصالها إلى أهلها .
المبحث الأول : حقـــوق الزوجــــــــــــة على زوجهـا :
الإسلامُ -دينُ العدل والانصاف- ، كما أوجب للزوج حقوقًا على زوجته ، أوجب عليه –كذلك- حقوقًا لها ؛ فكلُّ حقٍّ بين الزوجين يُقابله واجبٌ . ويؤكِّد هذا المعنى قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [البقرة : 228 ] .
والمرأةُ ليست خادمة ، أو ضيفة في بيت زوجها . ولا هي للمتعة الجسديَّة فحسب، بل هي راحة للنفس، وعصمة للدين، وأمّ للأولاد ، وأمينة على الأسرار ، وحارسة للمال ، وشريكة في الحياة ، وحريصة على تحقيق الآمال .
وتاريخُ أمّتنا مليءٌ بقصص الزوجات اللواتي كُنّ بلسماً شافياً لآلام أزواجهنّ ، ينتظرونهم حين عودتهم من أعمالهم مرهقين ، ودخولهم إلى بيوتهم متعبين ؛ فيُحسِنَّ استقبالهم ، ويفتحن لهم قلوبهنّ ، ويُعِدْنَ إليهم الثقةَ والراحةَ ، ويُشعرونهم بمعنى قوله تعالى : ( ومن اياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون ) [الروم:21] .
المطلب الأول : من حقوق الزوجة ( المعاشرة بالمعروف )
وإذا كان هذا هو وضع المرأة –وهو بلا شكّ نعمة تستوجب شكراً-، فعلى الرجل قياماً بشكر النعمة أن يكون حَسَنَ الخُلُق معها، يحتمل أذاها ، ويصبر عليها . وعليه كذلك أن يُعاملها بالرحمة في كلّ الأحـــوال ، حتى ولو كــان لا يُحبّها ، امتثـالاً لإرشــاد مولانا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) . [النساء: من الآية : 19 ]
وهذه طبيعةُ صاحب الدين ؛ لا عدوان ولا ظلم ، بل يُعطي كلّ ذي حقّ حقَّه، ولا يدعوه عدم الحبّ إلى الظلم والعدوان ، بل يتذكَّر أنَّ امرأته قد جُبِلَتْ على ما جُبِلَتْ عليه سائر النساء من الاعوجاج ، ولا يُمكن تعديلها مهما حاول ذلك ، فلا بُدَّ من مداراتها ، والصبر على اعوجاجها ،كي يفوزَ بحُسن معاشرتها ، امتثالاً لإرشاد رسولنا صلى الله عليه وسلم في قوله :”.. واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهنّ خُلِقْن من ضِلْعٍ أعوج، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه ، فإن ذَهَبْتَ تُقيمَه كَسَرتَه ، وإن تركتَه لم يَزَلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً “. – وفي رواية – “فدارِها، تَعِشْ بها-ثلاث مرّات-” .
فرسولنا صلى الله عليه وسلم بهذا التصوير: ” خُلِقْن من ضِلْعٍ أعوج، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيمه كَسَرتَه، وإن تركتَه لم يَزَلْ أعوج”، يختصر على الرجل الطريق لفَهْمِ المرأة؛ فالمرأةُ “إن تَرَكْتَهَا اسْتَمْتَعْتَ بها على عِوَجٍ” ؛ كشجرة الورد جميلةٌ بشوكها، والذي يطلب شجرةَ ورد بلا شوكٍ جاهلٌ عابثٌ، والذي يزعم أنّ شوكَ شجرةِ الوردِ يجعلها قبيحةً لا تصلح للاستمتاع بها مختلّ المزاج ، منحرف الطبع .
لذا وَجَبَ على الزوج المسلم أن يتفهَّم طبيعة المرأة ، وأن يتغاضى عن بعض سلبيّاتها ، لتسير الحياة في هناء ، وتمشي في صفاء ، ويعيش في راحة واستقرار . وعليه أن يصبر ويعفو ويصفح ، وليكن قول رسوله ف نَصْبَ عينيه دائمًا : “لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً. إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ” -أو قال:- “غَيْرَهُ”.
فهناك فضائل ومحاسن تطغى –عند التأمُّل- على كثيرٍ من عيوبها . والزوجُ إن حاول الوقوف عند كلِّ خطأ من أخطاء زوجته -نتيجة انفعالها البالغ- مؤاخذًا ومعاتبًا ، فإنّ ذلك لن يُسفرَ سوى عن مزيدٍ من التباعد والشقاق ، وبعده الفراق والطلاق .
يقول الدكتور محمّد بن لطفي الصبّاغ : (( من الأمور المهمَّة التي ينبغي أن تعرفها –عزيزي الزوج- أنَّه لا بُدّ من التغاضي عن أمورٍ كثيرةٍ . إنَّك لن تستطيع أن تجدَ في زوجتك كلّ ما تريد ، كما أنَّها لن تجدّ فيك كلّ ما كانت تريده . فلا تتعقَّب المسائلَ صغيرها وكبيرها ، ولا تعاتب في كلّ الأمور …. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يتخلّص من كثيرٍ من العيوب التي فيه ، فكيف نُريد من الآخرين أن يكونوا كما نريد ، ونحن عاجزون أن نكون كما نريد ؟ )) .
إدخال السرور على قلب الزوجة من المعاشرة بالمعروف :
أمَرَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم بمقابلة النَّاس وملاقاتهم بالابتسامة الطيبة والكلمة الحسنة ، فقال : ” لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا ، ولو أن تلقَ أخاك بوجهٍ طلقٍ” ، وقال : “… والكلمة الطيبة صدقة” .
وإذا كان –عليه الصلاة والسلام- قد أَمَرَ بذلك في معاملة النَّاس عامَّة، فإنّ أولى النَّاس بذلك الزوجةُ التي تُقاسم زوجها الحياة بحلوها ومرّها ، وصفائها وكدرها ، وخيرها وشرّها .
ألَمْ يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم :” خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهلِهِ، وأنا خيرُكم لأهلي”.
إنّ الكلمة الطيبة صدقة ، والابتسامة لونٌ من المعروف .
فما أعظم وصاية رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وما أجدرنا أن نأخذ بها .
مراعاة شعور الزوجة وعدم إيذائها من المعاشرة بالمعروف :
إذا كان رسولُنا الكريمُ ف قد أمرنا أن نُحسن معاملة الجار ، وأن نُراعيَ مشاعره ، حتى فيما نُدخله إلى بيوتنا ، أو نصنعه فيها ، في قوله صلى الله عليه وسلم : ” ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها ” ” وإن اشتريتَ فاكهةً فاهدِ له ، فإن لم تفعل فأدخلها سرًّا . ولا يخرج بها ولــدُك ليغيظَ بها ولــدَه” ، فإنّ الصاحب بالجنب –الزوجة- تستحق ذلك –أي مراعاة شعورها كالجار- وزيادة .
ومِمَّا يُؤسَف له أن بعضَ الأزواج –ولا سيّما في المجتمعات المنفتحة- يفعل ما يُنافي المعاشرة بالمعروف ، فيتفنّن في إيذاء زوجته ، ولا يُراعي شعورها . والله ﻷ مطّلعٌ عليه ، وسيُجازيه على عمله .
يقول الشيخ حسن أيوب : (( إنّ واجبَ المسلم أن يجبرَ القلبَ الكسير ، ويُضمّد النفس الجريحة ، ويُفرّج كرب المكروب . فما بال هذا الزوج يكسر ويجرح ويُنزل الكرب على زوجته ؟! نسيَ أنّها أخته في الإنسانيَّة ، وأنّها أخته في الإسلام ، وأنّها جارته في الحياة ، وأنّها قدّمت إليه معروفًا كثيرًا ، كما نسيَ أنّها زوجته ؟! إنّ الله تعالى حرَّم على المسلم أن يُؤذيَ أخاه المسلم بنظرة أو بكلمة أو بحركة ، وأوجب على كلّ مسلم أن يحترمَ شعورَ أخيه المسلم على أيّ حال . فما بال الزوج النكد يصبّ البلاء على زوجته صبًّا بغير حساب؟ ألايعلم أنّها سوف تأخذ بتلابيبه يوم القيامة أمام الله تعالى وتُطالبه بحقوقها،وجزاء ظلمها. والله أعدل الحاكمين لن يتركه حتى يأخذ لها جميع حقوقها ، بأن يعطيها من حسنات زوجها ، فإذا لم تكف أخذ من سيّئاتها فوضعت عليه ، ثمّ كُبّ في النَّار )) .
ومن مظاهر إيذاء الزوج لمشاعر زوجته :
1- أن يُحدّثها عن جمال فلانة التي رآها في الطريق، أو شاهدها في الرائي، أو زاملها في العمل، ويُقارن بينها وبينها، مِمَّا يُؤلمُ نفسها، ويؤذي مشاعرها . والزوجة قد تُقابل قوله بشيء من التعقُّل أو التّجاهل ، مع أنَّ الأمرَ –يقينًا- قد ترك أثرًا سيّئًا في نفسها .
وهذا التصرُّف من الزوج حرامٌ لأمورٍ ،
منها : أنَّه نَظَرَ إلى امرأة أجنبيَّة، وهو أمرٌ محرَّمٌ قد نهى عنه ربّنا ، فقال : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) [النور : 30] . ونهى عنه رسولنا ف في وصيّته لأمير المؤمنين عليّ س–وهو عامّ لأمّته-: “يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ” .
ومنها: أنَّه آذى مشاعر شريكة حياته، ومربية أولاده، وملبية رغباته، والله ﻷ قد نهى عن إيذاء المؤمنين، وحذّر من ذلك، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) ( الأحراب : 58] .
2- ومن مظاهر إيذاء الزوجة: تهديدها المستمرّ بالزواج من ثانية ، بقصد مضايقتها، والإضرار بها، لا لسببٍ ألجأه إلى ذلك، ولا لحاجة اضطرته إليه ، مِمَّا لا يقبله لأخته ، أو ابنته .
ومعلومٌ ما يتركه الحديث عن التعدّد –وهو أمرٌ مشروعٌ بلا ريب- من أثرٍ في نفسيّة الزوجة ، ينعكس سلبًا على الأسرة كلِّها .
3- ومن مظاهر إيذاء الزوجة : ما يحدث من بعض الأزواج من ذكرٍ لعيوب زوجته -لا سيّما أمام أقاربه-، مِمَّا يجعلهم ينظرون إليها نظرة ازدراء وانتقاص واحتقار .
وكان الأولى به أن يُعدِّد محاسنها ، ويتغاضى عن ذكر جوانب القصور عندها، إن كان راغبًا في كسب قلبها، والإبقاء على مودّتها. أمَّا إن تأكَّدت رغبته في فراقها ، فعليه أن لا ينسى ما كان بينه وبينها من مودّة وعشرة ، فإنّ الله يُجازى ذا الإحسان على إحسانه وذا الإساءة على إساءته .