الأولاد نعمةٌ كبرى، ومنَّةٌ عظمى، وهِبةٌ من المنعم جلّ وعلا، لا يعرف قيمتها إلاّ من حُرمهـا ؛ فهم زينة الحياة الدنيا ؛ كما قال سبحانه وتعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) .
وكثيرٌ ممَّن حُرموا نعمة الولد ، يتمنّون لو قدَّموا أموالهم حتى يكون لهم ولد .
ومصيبةُ الأسرة في ولدٍ من أولادها أشدّ وقعاً من مصابها في شيء آخر ، ولا غرابة ، فالولد قطعةٌ من أبيه .
وإنَّمـــا أولادُنــا بـيـنـنـــا :::::: أكبــادُنا تمشــي على الأرض
لو هبَّت الريحُ على بعضهـم :::::: لامتنعـت عيني عن الغمـض
وربّما ضاق الآباء أحياناً بمتاعب أبنائهم ، فأظهروا التضجُّر .
ولربّما غادر الأبُ البيتَ التماساً للراحة من ضجيجهم ، أو ضيقاً بهم ، ولكن سرعان ما ينتابه القلق عليهم ، ويشعر بالشوق إليهم .
وإذا ما ترك الأولاد البيتَ إلى مكان آخر، شعر الوالدان بخلوّ المكان ، وضاق بهم رغم اتساعه .
فالأولاد أنسٌ وبهجة ، وحياةٌ وحركةٌ ، وامتدادٌ لوجودنا على هذه الدار . فهم نعمةٌ من الباري جلّ وعلا .
ولمَّا كان لكلِّ نعمة حقّ يجب أداؤه، فإنّ حقّ نعمة الولد: حسنُ تربيته، وطيبُ تنشئته، وتأديبه، وتعليمه الأخلاق والمبادئ السامية ، امتثالاً لتوجيه رسولنا صلى الله عليه وسلم : “ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ” .
ولا سبيلَ إلى ذلك إلاّ عن طريق الإسلام .
ويتمّ ذلك بالتوجيه المبكِّر نحو الخير الذي دلّ عليه معلِّم الخير صلى الله عليه وسلم ، والتعـويد –منـذ نعـومـة الأظفــار- على فعل الطاعات ، وأداء العبادات ، والابتعاد عن سفساف الأمور ، وتجنّب مساخط الله .
وإنّما قيّدنا التوجيه بـ”المبكّر” أمـلاً في صيانة جوارح الولد وعدم تعريضها لما يؤذي ؛ لأنَّ الأطفال مرايا تعكس ما يقع أمامها من فاحش القول وبذيء الكلام ؛ فيُصان لسانه عن النطق بالشتائم والسباب واللغو ، ويُصان بصره عن رؤية الشائن من الأفعال .
كما يتحتَّم دراسة طبائع الأولاد ، وملاحظة تطوّر نموّهم العقليّ ، ليمكن معاملتهم على أساس صحيح ، فلا يقسو في موضع الرحمة ، ولا يرحم في موضعٍ ينبغي فيه الحزم :
ووضع الندى في موضع الحزم والعُلا مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
ومن أسوأ الأمور أن يستغلّ الآباءُ الأبناءَ لتحقيق مآربهم وأغراضهم الدنيئة ؛ فيطلبون منهم الغشّ والخداع والكذب، ويدفعونهم لارتكاب عنف أو سرقة أو غيرها .
وينسى الآباء أو يتناسون أنَّهم بهذه الفعال قد دفعوا بأبنائهم إلى طريق الجريمة الذي لا تحمد عُقباه ، ولا يُعلم منتهاه .
يقول ابن القيم: (( وكم مـمَّن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله ، وترك تأديبه ، وإعانته على شهواته ، ويزعم أنَّه يُكرمه وقد أهانه ، وأنَّه يرحمه وقد ظلمه ، ففاته انتفاعُه بولده ، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخــرة . وإذا اعتبرت الفســادَ في الأولاد ، رأيتَ عامَّتَه من قبل الآباء)) .
قرأتُ أنَّ إحدى المحاكم حكمت على ســارق بقطــع يده ، وعندمــا أرادوا تنفيذ العقوبة ، طلب السّــارقُ من الجهات المختصة أن تقــوم بقطع لســـان أمّه قبل أن يقطعــوا يده ، وعلَّل ذلك بقوله : ســرقتُ أوَّل مــرة في حيــاتي بيضة من جيراننــا ، فلم تؤنبني أمي ، ولم تطلب مني إعادتها ، بل زغردت فرحةً لأني قد صرتُ رجلاً في نظرها .
ومن القصاص العادل: أنّ مثل هؤلاء الأولاد الذين أفسدتهم أُسرهم، يَطال عدوانهم الأولُ أُسرَهم قبل غيرها ؛ فيسرق الولد مال أبيه ، أو مصاغ أمّه ، وربّما اعتدى عليهما بالضرب، وصار مصدر شرّ مستطير على أهله وإخوانه وذوي قرابته .
وإنِّي أُناشــد الآبـــاء أن يــؤدّوا ما عليهم من حقوق تجاه أولادهم ، إن لم يكن لخير المجتمع ، فلصالحهم هم ؛ فإنّ من زرع حصد ، ومن غرس جنى، وكما تكون يكون لك ، والجزاء من جنس العمل ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) .
فانظروا يا رعاكم الله إلى الغدّ، وتفكّروا : ما الذي تُريدونه من أبنائكم ؟ وماذا تأملون فيهم ؟ وتذكّروا أنّ من قدَّم الحنان والعطف والحبّ والرعاية والتربية الصالحة، كان الثمر من جنس ما قدَّم . أمَّا من فرَّط وأهمل ، فإنَّه لا يجني سوى الحنظل .
وليعلم الآباء أنّ لأولادهم حقوقاً أقرّتها الشرائع والقوانين والأعراف، وأتت أمّ الشرائع وخاتمتها ، فوضّحت هذه الحقوق ، وبيّنتها أتمّ بيان ؛ فأوجبت على المولود له الحضانة، والخدمة، والكسوة، والنفقة، وأجرة التعليم، والمسكن ، وحقوقاً أخرى يُلزَم بها الآباء حتى يبلغ أبناؤهم مبلغاً يمكنهم فيه الاعتماد على أنفسهم ، والاستقلال بمعيشتهم ، كما قال الحقّ تبارك وتعالى : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) .