الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. قال الله تبارك وتعالى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه. ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب)
يعلمنا تبارك وتعالى بلطفه وعظمة عطاء آياته الباهرات أن هناك إرادتين اختياريتين للعبد، وهما :
إرادة حرث الآخرة، بعمل الدنيا: وهو ثوابها وأجْرُهَا وما أعده الله تعالى للفائزين من نعيم مقيم… فيقابل هذه الإرادة زيادة في الأجر، والزيادة تقتضي مزيد عطاء فوق الاستحقاق بمضاعفة الأجور أضعافاً مضاعفة. كما وردت الآيات والأحاديث الدالة على مضاعفة الأجور بَمَنِّه وكرمه تبارك وتعالى. فقال الكريم العظيم (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) وقال الرحمن الرحيم (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تكن حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما) فمضاعفة العطاء لمن أخلص لله تعالى (يُقرض الله) وكان عمله إحسان (وإن تكن حسنة)
وأما من أراد حرث الدنيا بعمله وجهوده لتحصيلها دون أن ترتبط بالإخلاص لله تعالى، فلا يقابلها زيادة، وإنما عطاء. والعطاء لا يقتضي منه حصول كمال المبتغى، بل: (نؤته منها).. إضافة إلى أن ليس له نصيب من خير الآخرة. (وما له في الآخرة من نصيب)
فطالب الدنيا المجافي للآخرة لن ينظر إلى الحلال أو الحرام، وإلى الحق الباطل، كمعيار للتعامل والاختيار والترجيح. وإنما همه التكثر والتمتع على حساب الآخرة. وأما من أراد حرث الآخرة، فلم ينوه تبارك وتعالى عن عدم العطاء في الدنيا، من خيراتها. وعدم التنويه دليل على أنه يعطيه بالقدر الذي لا يعطل مراده من حرث الآخرة. وهو أعلم تبارك وتعالى بشأن عباده فيما يعطلهم عن مراد الآخرة. ولذلك جاءت الأرزاق متباينة في عباده الصالحين، بين غني زاد غناه في كل وجه، وبين غني في وجه وفقير في وجه، وبين فقير في أوجه وكفاف في وجه، وبين عليل من وجه، وغني من أوجه. تباين عظيم. وكل منهم لا يعطله العطاء الدنيوي عن مراده من حرث الآخرة.
وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان همُّه الآخرةَ، جمعَ اللهُ شملَه، و جعل غناه في قلبِه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت نِيَّتُه الدنيا، فَرَّق اللهُ عليه ضَيعَتَه، و جعل فقرَه بين عَينَيه، ولم يَأْتِه من الدُّنيا إلا ما كُتِبَ له )
فهم الآخرة يدفع للعمل لها، وتقديمها على الدنيا، فيتحقق له بفضل الله تعالى مالا يتحقق مما يطمع فيه من مراد الدنيا. إضافة إلى ما لا يتحقق من الخير إلا بمطية العمل للآخرة.
فمن عباده من هو مُسْتَعطَى لأنه أراد حرث الآخرة، ومنهم مُسْتَعطَى لأنه ما أراد حرث الآخرة، فأعطاه منها. وتأمل في ما أُسْتُعْطِيَ من الكفار وما أُسْتُعْطِيَ من صالحي المسلمين. فسبحان الجليل الحكيم العظيم. الذي له الحكمة في كل شيء (وهو الحكيم العليم )
إن هذا البيان من الله تعالى تنبيه وتعليم وتوجيه لعبادة، حتى يُخْلِصُوا له في أعمال الدنيا، بأن تكون وفق مراده وخالصة له تبارك وتعالى، ليجعل المسلم كل تحركاته وسكناته وتوجهاته وأفكاره نحو الحصول على ثواب الآخرة. فيحصل بذلك على خير الدنيا والآخرة. تنفيذاً لمقتضى الآية الكريمة (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)
إن تربية المجتمع على هذا المسلك يحقق له السعادة والاستقرار والأمن والرخاء والتواد، لأن من أراد حرث الآخرة لم يعبث بقوته وفكره وأخلاقه في المجتمع. بل يكفيهم شره ويبذل خيره لهم.
اللهم برحمتك ولطفك اجعلني والمسلمين أجمعين يا رب العالمين ممن أراد حرث الآخرة فزدت له في حرثه، وأعطيته في الدنيا ما يزيد حرثه في الآخرة. إنك كريم وعلى كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
اسم الكاتب: أ.د. خالد بن حامد الحازمي