إن من نعم الله العظيمة على عباده : نعمة العقل الذي هو أداة التفكير، ولذا أعلى الإسلام من مكانه، ورفع من شانه، بل جعله أحد الضروريات الخمس التي يجب على المسلم الحفاظ عليه.
والمتأمل في عصرنا الحاضر يجد أنه يعيش الثورة المعلوماتية؛ بما ساعد على انتشار المعتقدات الفاسدة والأفكار المنحرفة بين الناس؛ الأمر الذي يؤكد أهمية العناية بمنهجية التفكير وضبط نتاجها للبعد عن الإرهاق العقلي والترف الفكري.
أضف إلى ذلك فإن المسلم يرى أزمة فكرية تكمن في قصور أو سوء استخدام الإنسان لقدراته العقلية؛ وبالتالي نتج عن إهدار لتلك القدرات والوظائف.
وجميل قبل بيان حدود التفكير في ضوء السنة النبوية أن نتعرف على التفكير في اللغة : فهو مصدر من فعل (فكّر)، والفكر : إعمال الخاطر في الشيء، وقيل: إعمال النظر في الشيء، والفِكْر بالكسر: تردد القلب بالنظر والتدبر لطلب المعاني، وقيل إنه : ترتيب أمور في الذهن يتوصل بها إلى مطلوب يكون علماً أو ظناً، و(التفكير) إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها.[لسان العرب ، ابن منظور ، 10 / 279 ].
ويعني هذا أن مادة الفكر في اللغة تتضمن معنى التأمل والنظر فيما تؤول إليه عاقبة الشيء، والتدبر في الأمور، وكل هذه المضامين تتعلق بعملية عقلية ذهنية يراد منها استنباط المعلومات والخبرات للوصول إلى معرفة جديدة.
ويمكن القول : إن التفكير العلمي – في الاصطلاح- هو إعمال العقل من أجل اكتشاف حقيقة مجهولة، أو البرهنة على حقيقة موجودة مما يتعلق بأمور الدنيا أو الآخرة في خطوات علمية مدروسة.[منهجية التفكير العلمي في القرآن الكريم وتطبيقاتها التربوية، خليل الحدري ، ص41]
حدود التفكير في السنة النبوية :
إن الإسلام وضع منهجية علمية لعملية التفكير، ورسم لها المسار الصحيح؛ بما يصون العقل البشري من أن يتبدّد وراء الغيبيات التي قد يؤدي به أحياناً إلى مصادمة النصوص الشرعية، بما يجره إلى الإرهاق العقلي والترف الفكري، وهذا ما يفيده الحديث الشريف : ((تَفَكّرُوْا فِي آلَاء اللهِ، وَلاَ تَفَكَّرُوا فيِ اللهِ –U-)) .[ رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 525 ) والبيهقي في شعب الإيمان، باب في الإيمان بالله عزوجل ( 1 / 136 ) عن ابن عمر مرفوعاً . والحديث حسنه الألباني بمجموع طرقه ( السلسلة الصحيحة 4/396-397) برقم (1788)] .
فالحديث السابق أفادنا أن دائرة التفكير لا تشمل جوانب الغيبيات؛ وذلك لاستحالة إدراكها، وعجز الإنسان عن استكشاف حقيقتها، وأن محاولة الخوض فيها من الفضوليات التي ترهق العقل دون الاستفادة من نتائجها، وقد يؤدي به إلى الانحراف في المعتقدات والأخلاق والسلوك.
ولهذا بيّن النبي -r – العلاج الناجع لمن استدرجه الشيطان وأغراه بالتفكر في ذات الله؛ فقال r : (( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُوْلُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟، مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتّى يَقُوْلَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ وَلَيَنْتَهِِ )) [أخرجه البخاري في صحيحه كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده ( ص : 627 ) برقم ( 3276 ) ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها (1 / 120) برقم (134) واللفظ للبخاري] .
كما حث الحديث أن يربط المؤمن فكره بآلاء الله عز وجل حتى يكون تفكيره متضمن للأهداف السامية، كتحقيق العبودية لله عز وجل ؛ قال الله تعالى :{وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } إلى أن قال: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] .
ومن أهداف التفكر في آلاء الله عز وجل اكتساب المعارف المفيدة والسبق الإبداعي، قال تعالى : {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.[ الجاثية : 12 – 13 ].
وغير خاف أن التفكير المبني على التقوى واكتساب العلم مرتبط بالتزام الأخلاق الحسنة فيه، فالإسلام دعا إلى ذلك ورفع من شأنه، قال صلى الله عليه وسلم ((أَكْمَلُ المُؤْمِنِيْنَ إِيْمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) [ رواه أبوداود في سننه: برقم (4682)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1230)]. ومن هنا ربط الإسلام عملية التفكير بالأخلاق وطلب الالتزام بها؛ قال تعالى :{إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون } [ يونس : 6 ] .
فالآية دلت على أن المتقين هم المنتفعون، وفي هذا إلماحة إلى التفكير المنضبط والمبني على التقوى الذي يقود المسلم إلى أن يضبط تفكيره ويقيده بالأخلاق المرعية حتى يتمثل نتاج تفكيره بالسلوك الحسن.
فمراعاة الأخلاق في التفكير يضبط نتائج التفكير؛ لأن المسلم إذا التزم بالآداب الشرعية ؛ جاء تفكيره متّزناً منضبطاً، يدعوه إلى أن يتأمل في نتائجه، والوقوف على نتاجه من حيث إيجابياته وسلبياته، بحيث لا يُقدّم نتاج تفكيره، وما استفاد من تأملاته وإبداعاته إذا صادم التعليمات والتوجيهات الربانية، بل يحيط تفكيره بسياج إيماني يمنعه من الإضرار بالناس والتعدي على حقوقهم.