لقد شرع رسول الله r في بناء مسجده، عند وصوله المدينة، فعن عروة بن الزبير t، قال:(…. فلبث رسول الله r في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله r. ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول r بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر سعد بن زرارة، فقال رسول الله r حين بركت به راحلته: هذا إن شاء الله المنـزل. ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا : لا ، بل نَهَبُهُ لك يا رسول الله، فأبى رسول الله r أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً، وطفق رسول الله r ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول ـ وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيـبـر هـذا أبرُّ ربنا وأطهـر
اللهم إن الأجرَ أجرُ الاخرة فارحم الأنصار والمهاجر
وعن أنس بن مالك t قال: ( لما قدم رسول الله r المدينة؛ نزل في عُلوِّ المدينة، في حيٍّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف، قال: فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملإ بني النجار، قال: فجاءوا متقلدي سيوفهم، قال وكأني أنظر إلى رسول الله r على راحلته وأبو بكر ردْفَه وملأ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: فكان يُصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم. قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ بني النجار، فجاءوا. فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. قال: فكان فيه ما أقول لكم، كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خِرَبٌ، وكان فيه نخل، فأمر رسول الله r بقبور المشركين فَنُبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، قال: وجعلوا عِضادَتَه حجارة، قال: جعلوا ينقلون ذاك الصخر وهم يرتجزون ورسول الله r معهم؛ يقولون:
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة )
فلقد تم تشييد مسجد رسول الله r ليكون المنطلق الأول الذي تنطلق منه وبه هذه الأمة، لأنه شعار وحدتها، ومكان تجمعها، وعنوان لعزتها. تُؤدى فيه الصلوات؛ وتجتمع فيه الجموع، وتناقش فيه قضايا الأمة، وهو المدرسة التي يتعلم فيها المسلمون أمور دينهم، فهو حياة الأمة وقلبها النابض، يجتمعون فيه ويتعارفون من خلاله، وينطلقون منه.
وإن اجتماع المسلمين في المسجد لأداء الصلاة يعلم أفرادها حاجة بعضهم لبعض حتى تتم الفريضة على الوجه الذي أراده سبحانه وتعالى، وأن زيادة حسناتهم في هذا الباب مرتهن بتجمعهم في صفوف منتظمة.قال r (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) وإن المسجد ليجسد أفراد الأمة في جسد واحد؛ عنوانه المسجد، فلم يبق إلا أن تدرك الأمة هذه المعاني التي تنبثق من المسجد لتحفظه وتحافظ على شعائره.
ولقد كان عليه الصلاة والسلام ينقل مع أصحابه اللبن، أي الطوب المعمول من الطين الذي لم يحرق، وأنه صلى فيه وهو عريش اثنى عشر يوماً، ثم بناه وسقفه، وفي رواية أنه r بناه أولاً بالجريد، ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين وكانت أعمدته خشب النخل
وإن هذا العمل المتجدد والمتلاحق يؤكد أهمية العناية بالمساجد وصيانتها، والحفاظ عليها، وإيلائها الأهمية التي تحقق القيام برسالتها.
وقد كان المسلمون يتحينون وقت الصلاة قبل فرضية الأذان، فعن ابن عمر يقول ( كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس يُنَادَى لها. فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ فقال رسول الله r يا بلال، قم فناد بالصلاة).
وفرض الأذان على الراجح في السنة الأولى من الهجرة. وذلك عندما رأى عبدالله بن زيد في منامه صيغة الأذان،حيث يقول t (لما أصبحنا أتينا رسول الله r فأخبرته بالرؤيا، فقال r : إن هذه لرؤيا حق،فقم مع بلال فإنه أندى وأمد صوتاً منك. فألق عليه ما قيل لك، وليناد بذلك، قال: فلما سمع عمر بن الخطاب نداء بلال بالصلاة، خرج إلى رسول الله r وهو يجر إزاره، وهو يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي قال، فقال رسول الله r فلله الحمد؛ فذلك أثبت).
وهكذا تتـنـزل مِنَنُ الله تعالى وخيراته على المسلمين بتعليمهم ما يجتمعون به وعليه، وصيغة اجتماعهم بنداء مبارك، يتقدمه الإعلان بأن الله أكبر، قال القرطبي وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمن وجود الله وكماله، ثم ثنى بالتوحيد ونفي الشرك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد r ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تُعرف إلا من جهة الرسول r، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيداً. ويحصل بالأذان الإعلام بدخول الوقت، والدعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام.
ولقد قام المسجد النبوي بمهمات كبيرة وعظيمة، ومن أبرز تلك المهام: إيواء فقراء وضعفاء المسلمين، الذين عُرفوا بأهل الصفة. وقُسِّمت فيه الأموال. وكان مكاناً لتعليم المسلمين أمور دينهم ومكاناً لاعتقال الأسير المشرك. إذا كان في ذلك عظة لمن يراه، وعظة له فيما يرى من حال المسلمين، ومن الصلاة، وسماع القرآن وأحاديث الرسول r كما في قصة ثمامة بن اثال. وفيه تم تطبيب جرحى المسلمين كما في قصة سعد t عندما أصيب يوم الخندق. ومكاناً للقضاء. وعقدت فيه ألوية لجيوش وسرايا المسلمين. وقد كان مكاناً يجتمع فيه المسلمون مع نبيهم وقائدهم.
فهذه الشواهد لمهام المسجد تؤكد أن المسجد في عهده r كان يمثل الحياة النابضة بالحركة والفاعلية، والأداء الفاعل والمؤثر في حياة الصحابة، وكأنه لا يخلو ساعة من ليل أو نهار.
مما يؤكد الفاعلية العظيمة والمؤثرة للمسجد في الإسلام، وما يقوم به من مهام تربوية واجتماعية، وغيرها مما لا يستغني عنها الناس.
وسيتضح إن شاء الله تعالى أثره الفاعل في الجانب التعليمي، عند الحديث عن التربية والتعليم.