فلقد أكدت هذه الوثيقة أهمية التوثيق الكتابي؛ لما له من أثر في الرجوع إلى بنوده حال المخالفة أو الاختلاف، وفي هذا ضبط للأمور والعلاقات، مما يؤكد أهمية هذا المبدأ، وأهمية الأخذ به في أمور المسلمين.
ويظهر في هذه الوثيقة أهمية توظيف الروابط والعلاقات الاجتماعية لما يخدم مصلحة الأمة، وأخذها في الاعتبار دون تجاهل لها. حيث ذكرت الوثيقة في بنودها الأولى ما يجب على كل عشيرة فيما بينهم، إضافة إلى ما يجب عليها تجاه بقية المؤمنين، ( والقسط بين المؤمنين).
وقد أظهرت الوثيقة أهمية التكافل بين المسلمين، فلا يتركون مفرحاً بينهم، وهو من أثقلته الديون، بأن يُعطوه بالمعروف، كما أن المؤمنين يد واحدة على كل من بغي منهم، ولو كان ولد أحدهم. فأخوة الدين تُحتم نصرة المظلوم وإعادة مظلمته إليه، وعدم نصرة الظالم حتى وإن كان ولد الإنسان.وهذا التكافل الاجتماعي المبني على المؤاخاة وإحقاق الحق لأهله قد بينته السنة النبوية في أحاديث كثيرة وعظيمة..
وقد أكدت الوثيقة نفي المجاملة في حدود الله تعالى، الأمر الذي يحقق الأمن والاستقرار، ورضا الله تعالى بتطبيق حدوده. فأكدت الوثيقة ذلك بالنص عليه: وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة؛ وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً ولا يُؤويه، وأنه من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة؛ ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل.
إن عملية الإيواء للمنهي عنهم شر ينخر في الأمة إذا أُهمل، حيث يتسع بكثرتهم الشر مع مرور الزمن، ولا يزول إلا بعدم الإيواء، لكي يَعْرِفَ صاحبه أنه لا مكان له في منازل أفراد الأمة حتى يُؤخذ الحق منه، ويُطَبَّق الحد عليه. وإن هذا المبدأ يثير في الأمة مكامن استشعار عِظَم الجرم؛ وعِظَم إثم الإيواء، مما يربي فيها نزعة الخوف من الله تعالى؛ الذي لا يتحقق من خلال القوانين الوضعية، وإنما بالنصوص الشرعية.
وإن الوثيقة لتؤكد خصوصية هذه الأمة، وأن المسلم ليس كالكافر، وليس بينهم تكافؤ أبداً، حيث نصت الوثيقة على: ولا يَقْتل مؤمنٌ مؤمناً في كافر.
إن بنود الوثيقة بين المسلمين تؤكد لحمة الأمة المسلمة، الأمر الذي ينبغي أن يُغْرَس في نفوس الأجيال من خلال بيان تطبيقاته النبوية وآثاره الاجتماعية، وكيف كان تفعيله من قِبَلِ أصحاب رسول الله r في حياتهم، حتى بلغوا به الثناء والمدح من رب العالمين، فحققوا به مرضاة ربهم سبحانه وتعالى، وترجموا للأجيال بعدهم حقيقة المنهج الإسلامي فهماً وتطبيقاً .
وتعطي مضامين هذه الوثيقة أهمية الاحتواء للعناصر الاجتماعية بما يعزز الكيان الإسلامي، ويقوي دولة الإسلام، وهذا لا يتأتى إلا من خلال الاعتراف بالواقع ومعايشته بالحكمة التي تحفظ للإسلام قوته. وإذا كان هذا الأمر قد أخذ به r في المجال الكبير الواسع، فإنه يلزم مراعاته في الكيانات الصغرى، مثل المؤسسات والإدارات، حيث من مهام القائد الإداري الناجح احتواء شرائح إدارته؛ ليسير بهم في ركاب سفينة الإدارة الواحدة؛ حتى يحققوا أهدافها؛ ويسلكوا بها درب الأمان، مع العمل التربوي والدعوي الذي يقلل فجوة التباين والتنوع، لتصبح شريحة واحدة مع مرور الوقت.
فالعمل التربوي والإداري والعلمي الذي يغفل أو يتغافل عن واقع الحقائق؛ اعتقاداً أنه ينهج النهج الصحيح؛ فإنه سيكتشف بعد فترة من الزمن أنه ابتعد عن الطريق؛ وأخطأ التقدير، فأخطأ في القرار، فأدرك نتيجة خطئه.
وفيما يتعلق باليهود؛ فليس في هذه الوثيقة تعسفاً بحق الآخرين؛ حتى وإن كانوا على غير دين الإسلام، فالمنهج الإسلامي يكفل لغير المسلمين حياة كريمة وفق ضوابط شرعية.
فلقد نصت الوثيقة على: وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
فليس من طبع المسلمين الغدر، أو الحيف والظلم.
إن احتواء اليهود كمجتمع قائم في ذلك الوقت؛ قبل إجلائهم يكفل لهم الحياة والحرية الدينية، وفق ضوابط؛ مثل: عدم الخروج من المدينة إلا بعد أخذ الإذن من الرسول r وهذا يؤكد أهمية الحذر وأخذ الحيطة، وإعزاز الإسلام وأهله.
نقض اليهود للوثيقة وإجلاؤهم من المدينة:
بالرغم مما تضمنته الوثيقة من حفظ لحقوق اليهود، وعدل وإنصاف لهم، إلا إنهم قاموا بنقضها، والتضامن مع المشركين، ومحاولة الاعتداء على رسول الله r وحصول الخيانات منهم، ومحاولة زعزعة أمن المدينة، فكان الجلاء لهم، من المدينة على ما سيأتي بيانه في مكانه من هذا الكتاب، حيث تم إجلاء بني قينقاع، ثم بني النضير، ثم بني قريظة.