إن ثقافةُ النقد التربوي تعدُّ ضرورةً على جميع المستويات ، وفي مختلف مناشط الحياة ، سواء في مجالات الإنتاج أو الخدمات أو الفكر والتنظيم أو الكتابة والتأليف أو التربية والتعليم أو غيرها ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” وكُلُّ بَشَرٍ على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي ، ولا بد أن يأمر وينهى ، حتى لو أنه وَحْدَه لكان يأمر نفسه وينهاها ، إما بمعروف وإما بمنكر ، كما قال تعالى 🙁 إن النفس لأمارة بالسوء) ( يوسف : ٥٣ ) ، … وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض ، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر ، وتناهٍ عن أمر … ” ، لاسيما وأن العقولَ والأفهامَ مِنَحٌ من الله تعالى يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً ، وقد يقع بسبب هذا التفاوت خلافٌ بينهم في وُجهات النظر ، ومَسالكِ الاجتهاد ، وتحليلِ المواقف وتفسيرِها ، وهذه سنة الله تعالى في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، كما قال الله تعالى : ( ومن ءايته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لأيات للعالمين ) ( الروم : ٢٢ ) ، وهذا الاختلاف الظاهري دالٌّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأغراض ، مما يبيِّن بِجَلاءٍ أهميةَ معرفةِ النقد التربوي في تصحيح المسار السلوكي ، ومواجهة الآراء الشاذة ، والأفكار المنحرفة ، والتحليلات الخاطئة .
يقول القاسمي رحمه الله : ” ومهما بلغتْ الأنفسُ من الكمال شأواً كبيراً ، وحصلتْ من السعادة على درجةٍ عظيمةٍ فهي في حاجةٍ إلى النصح والإرشاد ” ، ذلك أن الكمالَ غيرُ متاحٍ لأحدٍ من البشر ، وإنما هو لله تعالى وحده ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون )) ، ومن هنا فالعلماء ” كلهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيءٍ منه ليس هو مرتبة أحدٍ منهم ، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين ، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم ، وإن كان صغيراً ، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم ” .
فالناقدُ التربوي يستحضر هذا المعنى ، ويضعُ الأمورَ في إطارِها الصحيح ، فلا يفترض المثالية أو العصمة في الأشخاص ثم يحاسبهم على ضوئها ، بل يعاملهم معاملةً واقعيةً صادرةً عن معرفةٍ تامةٍ بطبيعة النفس البشرية ، المتأثرة بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنسيان .
ومما يجعل النقد التربوي ضرورةً لازمةً ضعفُ العقل البشري ، بمعنى عدم كماله ، وليس بمعنى عجزه ، ومن آثار هذا الضعف أنه :
• يدرك شيئاً وتغيب عنه أشياء .
• قد يدرك شيئاً إدراكاً غير صحيح .
• يرى اليوم ما لم يره بالأمس .
ومن هنا ما بَرِحَ الناسُ في مختلف العصور في حاجةٍ ماسةٍ إلى من يُعَلِّمهم إذا جهلوا ، ويُذكِّرهم إذا نَسوا ، ويجادلهم إذا ضلوا ، ويَكُفُّ بأسَهم إذا أضلوا ، ولأجل ذلك عهد الشارع الحكيم إلى الأمة أن تقوم طائفةٌ منها على الدعوة إلى الخير ، وإسداء النصح للأفراد والجماعات ، ولا تخلص من عهدتها حتى تؤديها طائفةٌ على النحو الذي هو أبلغ أثراً في استجابة الدعوة ، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي .
أضف إلى ذلك أن العلوم والمعارف والنظريات العلمية في تجدُّدٍ مستمر ، وتطورٍ دائم ، وهي في حاجةٍ مُلِحَّةٍ إلى شيءٍ من الفحص والتأمل فيما دلت عليه ، والنظر في مدى مصداقيتها ونفعها للبشرية ، وإعمال النقد التربوي في مضمونها ونتائجها المتوقعة ، لاسيما مع الاختلاف في مبادئها وأصولها ، يقول حاجي خليفة رحمه الله : ” والمسائل العلمية تتزايد يوماً فيوماً ، بتلاحق الأفكار والأنظار ، فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان لا يخلو علمٌ من العلوم عن تصادم الآراء ، وتباين الأفكار ، وإدارة الكلام من الجانبين للجرح والتعديل ، والرد والقبول ، وإلا كان مكابرةً غير مسموعة ، فلا بد من قانونٍ يعرف مراتب البحث على وجه يتميز به المقبول عما هو المردود ، وتلك القوانين هي علم آداب البحث ” .