الحمدالله الوهاب الرزاق، الكريم الرحمن. والصلاة والسلام على الهادي البشير، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين .
تتجاذب نعمة المال الإنسان في أطورا حياته المختلفة لأنه عامل فطري في جذب الإنسان إليه، قال الله تعالى : ((زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب )).
والمال ممدوح في الشريعة عند الإنسان الصالح؛ كما قال صلى الله عليه وسلم ( نعم المال الصالح للمرء الصالح ) ومذموم عند من كان عبداً له , سائراً به في معصية الله تعالى، كما جاء في الحديث ( تعس عبد الدينار)
والأرزاق تكفل الله تعالى بها تقديراً وتنزيلاً، وفق حكمة عظيمة جليلة، تدل على عظيم حكمته ورحمته تبارك وتعالى.
فالله تعالى هو الذي يبسط الرزق ويوسعه على العبد أو الأمة أو الجماعة أو المجموعة، وبالقدر الذي يشاء؛ لأنه خبير بعباده أكثر من أنفسهم , قال تعالى (( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ))وقال تعالى (( إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً ))
فالمقدر للأرزاق هو الوهاب الرازق , يقدرها بالقدر الذي يصلح للعبد و للمجتمع، بقلتهم وكثرتهم، ذلك أنه هو الخبير بعباده، العالم والعارف بما يصلح لهم من البسط والسعة، أو الضيق والوسط، الذي هو مقتضى حكمته وعلمه و إحسانه ورحمته، ولكن أكثر الناس يجهلون هذا الأمر في حكمة التقدير والتنزيل في البسط والضيق، وربما يتجاوز بهم الأمر إلى الارتكان إلى الأسباب التي لا تغني عن تقدير الله شيئا، قال تعالى (( قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
بل إن في هذا التقدير منه تبارك وتعالى آيات وعلامات بأنه هو المتصرف في ملكوته، وأنه هو الوهاب الذي يلزم المرء أن يؤمن به، ويوحده، ويطلب الرزق منه، قال تعالى (( أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ))
ومن تمام حكمته تبارك وتعالى في الفقر والغنى وبسط الرزق وتضييقه وتقديره، قوله تعالى (( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير عليم ))
فلو وسع الله الأرزاق لجميع عباده لحصل من بعضهم البغي والطغيان، ولتعدى بعضهم على بعض بالأشر والتعالي والشرور , ولكن ينزل الله تعالى بحكمته وعلمه بقدر ما يحقق مصالحهم؛ ويمنع عنهم بغي بعضهم على بعض؛ لأنه الخبير العليم بعباده كيف يكونون أفراداً وجماعات لو زاد عليهم في الرزق ووسع عليهم وبسط لهم في أرزاقهم, أو ضيق عليهم، ولكن ينزل ذلك بقدر ما يشاء، وتتحقق به مصالح العباد .
وفي هذا ما يدل على أن لا يتحسر الإنسان ويتكدر فيما يراه من البسط عند أفراد وجماعات، وضيق عند أفراد و أمم ومجتمعات، فهناك حكمه بالغة وراء ذلك لا يعلمها إلا العليم الحكيم، ومن تمام نعمته وحكمته تبارك وتعالى أنه قسم المعيشة بين الناس ولم يجعل أساس قسمتها للعباد، فقال تعالى (( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون ))
فهو الذي قسم الأرزاق بين عباده بحكمته وعدله ورضاه , فهذا غني وهذا فقير , وهذا قوي وهذا ضعيف ليكون بعضهم سبباً لبعض في المعاش.
قال تعالى (( وفي السماء رزقكم وما توعدون ))فالله تبارك وتعالى هو المتكفل، وهو المعطي، وهو المقسم والموزع لأرزاق الناس, وبالتالي قد يسعى المرء سعياً حثيثاً ولا يدرك إلا القليل، بينما غيره أقل سعياً وأكثر تحصيلاً.
والمال في بسطه ليس علامة الرضا منه تبارك وتعالى ، وتضييقه ليس دلالة البغض منه جل جلاله، قال تعالى (كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) وقال تعالى في التوسعة على الكافرين به (( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ))
وفي هذه الآية الكريمة ما يدل على أن نعمة المال ليست دلالة الرضا منه تبارك وتعالى؛ وقد أوردها هنا في متاع الحياة الدنيا لمن يكفر بالرحمن واختص المتقين بالدار الآخرة .
إن هذه البيانات الربانية تبين لنا الحكمة في تقدير المال على العباد وحكمة الفقر والغنى التي يجهلها كثير من الناس .
وفي نفس الوقت يحرك الله تبارك وتعالى طاقات العباد نحو العمل والتكسب وجمع المال؛ ليتعاون الناس ويسخرون طاقات بعضهم لبعض من أجل التكسب الذي تتحقق به المنافع والمصالح بينهم , فجعل الحكيم الخبير نزعة حب المال دافعة للتكسب، قال تعالى (( وتحبون المال حباً جما ))
وإزاء هذا الحب العميق للمال يهذب الإسلام سعي الإنسان واستشرافه للمال حتى يكون أكثر أدباً وأخلاقاً مع ربه جل جلاله، ومع أفراد مجتمعه , فيضع الله تعالى الموازين الأخلاقية في التكسب؛ والتي منها: الأدب. فيقول صلى الله عليه وسلم ( إن هذا المال خضر حلو , من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه , و من أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه, وكان كالذي يأكل ولا يشبع )
وهذا يؤكد أهمية التؤدة وعدم الجشع والطمع في طلب المال، بل يكون السعي إليه بطمأنينة المتوكل على الله تعالى , ومن أسباب سعة الرزق قوله صلى الله عليه وسلم ( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)
كما بين تبارك وتعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعاً متعددة من الأساليب والبيوع المحرمة التي يفسد بها حال المجتمع، كالربا والغش والرشوة والسرقة وبيع النجش والاحتكار , وأنواع متعددة من البيوع .
فالحمد الله العظيم العليم الحكيم الذي علمنا ما لا ندركه من الحكمة في عطائه ومنعه وبسطه وقبضه الذي هو مقتضى رحمته بعباده و إن جهلوا الحكمة البالغة في تدبيره وتيسيره تبارك وتعالى. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين …