ولقد كان من أمر الأنصار شيئاً عجباً في مؤاخاتهم للمهاجرين، فأثنى عليهم رب البرية في كتابـه العظيم ليكـون قرآناً يتلى ويُتَعَبَّد لله تعالى به، فقال سبحانه جـلَّ شـأنه (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون مَن هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومَن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون).
فلقد بلغ الإيثار مبلغه في نفوس الأنصار، وأصبح سمة من سماتهم وشمائلهم رضي الله تعالى عنهم، ويقدم لنا سعد بن الربيع صورة لخُلُق الأنصار وكرمهم، فقد جاء في الحديث (لما قدموا المدينة آخى رسول الله r بين عبدالرحمن وسعد بن الربيع، قال لعبدالرحمن إني أكثر الأنصار مالاً؛ فاقسم مالي نصفين، ولي امرأتين؛ فانظر أعجبهما إليك فَسَمِّها لي أطلقها؛ فإذا انقضت عدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم ؟فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من إقط وسمن، ثم تابع الغَدُوَّ. ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة، فقال النبي r: مَهْيَم ؟ قال: تزوجت: قال: كم سقت إليها ؟ قال: نواة من ذهب ـ أو وزن نواة من ذهب ـ شك إبراهيم) أي الراوي للحديث.
لقد بلغ الكرم والإيثار مبلغاً عظيماً عند الأنصاري سعد بن الربيع t فبدأ عرضه ببيان حجم ثروته ليقبل عبدالرحمن بن عوف ذلك العرض الكريم، فيقول له: إني أكثر الأنصار مالاً. ثم يعرض عليه أن يتزوج بمن شاء من زوجتيه بعد أن يطلق من يرغب فيها، فأي إيثار أبلغ صوتاً وفعلاً من سعد بن الربيع؟ ولم يطمع عبدالرحمن بن عوف في مال الرجل نتيجة الفاقة والحاجة وكثرة مال ابن الربيع، بل دعا له بالبركة في الأهل والمال والولد، وطلب أن يدله على السوق، ليعمل ويتاجر، فعوضه الله خيراً، حيث أصاب مالاً وفيراً وخيراً كثيراً في فترة وجيزة، فتزوج بنواة من ذهب.
إن هذا الموقف ليعلمنا كيف نؤثر إخواننا على أنفسنا، وإن لم يكن كذلك فلا يسعنا من أن نمد لهم يد العون والمساعدة، وبذل كل ما يصلح شأنهم. ثم يُعَلِّمُنَا هذا الموقف أن تكون العفة هي رمز أخلاقنا؛ فلا نطمع في أموال إخواننا وإن كانوا أغنياء، بل الزهد فيها أحق وأجمل، وإن بذلوا لنا؛ طالما أن لنا من القدرة ما يمكننا من العمل والاستغناء . كما يعلمنا هذا الموقف أن من يتعفف يعفه الله تعالى ويغنيه من واسع فضله، كما أغنى عبدالرحمن بن عوف t .
فهكذا كانت ثمار المؤاخاة تمتد آثارها التربوية حتى للأجيال التالية لهم؛ لتعلمهم معنى الأخوة في الله تعالى.
وفي الحديث أنه (دعا النبي r الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. فقال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم بعدي أثرة) .
وهذا دليل آخر على ما بلغه الأنصار من الإيثار، وتقديم المهاجرين على أنفسهم في الخير، ورضوا بأن لا يختصوا بشيء دون المهاجرين، فلله دركم من أنصار، حظيتم بشرف الدنيا وعز الآخرة، فكانت تسميتكم بالأنصار اسماً إسلامياً ما سبقكم به أحد، فعن غيلان بن جرير، قال ( قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار؛ كنتم تُسَمَّونَ به أم سماكم الله ؟ قال: بل سمانا الله) وقد أوفى لهم رسول الله r وعرف لهم حقهم، إذ يتضح ذلك من أحاديث كثيرة قد وردت في مناقب الأنصار؛ ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك t يقول ( مرَّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يُبكيكم ؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي r منا. فدخل على النبي r فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي r وقد عَصَبَ على رأسه حاشيةَ بُرد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه؛ ثم قال: أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعَيبَتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فَاقْبَلُوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم).
فلقد تعلقت قلوبهم برسول الله r وبمكانته منهم، فيبكون تلك المكانة العظيمة، فيخرج عليه الصلاة والسلام في مرض وفاته عاصب الرأس؛ بعد أن علم بالأمر؛ وفاءً وحباً للأنصار، ومُبَيِّناً مكانتهم منه r (فإنهم كرشي وعيبتي) أي بطانتي وخاصتي، وضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الأحياء الذي يكون فيه نماؤهم. والعيبة: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده، وهذا من كلامه الموجز r الذي لم يُسبق إليه.
وإنه لوفاء منه r للأنصار في أحلك الظروف، بوصاية في أدق معانيها وحفاوتها.وإنه لدرس تتعلم منه الأمة محبة رسول الله r ، ودرس تتعلم منه الوفاء من نبي الوفـاء r في مرض وفاتة الذي كان يوعك فيه r ولم يثنيه ذلك عن بيان مكانة الأنصار والوصاية بهم.