لقد أصبح المسلمون في المدينة النبوية يتشكلون من المهاجرين والأنصار، ولقد جاء المهاجرون إليها بلا مال ولا زاد، حيث تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، وكانت خبرتهم تتركز في التجارة بحكم ما هو سائد في مكة المكرمة، ولم تكن لهم الخبرة في الصناعة والزراعة التي كانت سائدة في المدينة، ولابد للمهاجر بداية من الحاجة إلى المسكن والإعاشة، وما يواجهه من اختلاف المناخ، والحنين للديار، والتأقلم في المجتمع الجديد.
ولقد أصيب بعض المهاجرين بالحمى، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (لما قدم رسول الله r المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك ؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بوادٍ وحولي إذخرٌ وجلـيلُ
وهل أُرِدْنُ يومـاً مـياه مجنةٍ وهل يَبْدُوَن لى شامةٌ وطفيلُ
قالت عائشة: فجئت رسول الله r فأخبرته، فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمّاها فاجعلها بالجحفة).
فلقد عالج رسول الله r حنينهم للوطن، وما أصابهم من حمى، بدعاء شامل وعام ، بتحبيب المدينة في قلوب المهاجرين، وتعميم الصحة للمدينة بكاملها، وإحلال البركة في موازينها، ونقل حُمَّاها من أرضها، لينعم بذلك كل من سكن المدينة.
وأما هجرة أصحاب رسول الله r من مكة إلى المدينة فلم تكن سفراً وانتقالاً وترحالاً سهلاً وتلذذاً بمباهج الدنيا وزخرفها، بل كانت هجرة للإيمان، وهجرة لله ورسوله، وهجرة للآخرة، مقابل ترك المتاع والأهل والخلان، ومطارح الطفولة والذكريات، وفيها من المشقة والمتاعب والعناء، فذكر الله تعالى هجرتهم وخلدها في القرآن العظيم، وبين ما لهم من حق في الفيء، مبيناً سبحانه وتعالى ما تركوه وهجروه رغبة في فضل الله العظيم، وطمعاً في رضاه سبحانه وتعالى، ونصرة لرسول الله r فحازوا على لقب الصدق من علام الغيوب، وملك الملوك سبحانه وتعالى، فقال تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أُخْرِجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) ولئن هجر المهاجرون أموالهم رغبة في رضى الله جلَّ جلاله، فإنه لجدير بالمسلم أن يهجر المحرمات من المكاسب، ولئن هجر المهاجرون محبوباتهم المباحة من الدنيا، فإنه لجدير بالمسلم أن يهجر المحرمات من اللذائذ، ولئن هجر المهاجرون نومهم ومطارحهم، فإنه لجدير بالمسلم أن يهجر النوم عن ما افترضه الله تعالى عليه من الصلوات المكتوبة، ولئن هجر المهاجرون الأوطان، فلجدير بالمسلم أن يهجر أمكنة الخزي والعار، ولئن أقبل المهاجرون إلى الله تعالى بترك ما يملكون، فلجدير بالمسلم أن يُقبل على الله تعالى بما يملك من الخير.
ولقد عوض الله تعالى المهاجرين بمؤاخاة الأنصار، أولئك الأفذاذ الكرماء، الذين قابلوا إخوانهم المهاجرين بكل ما يملكون، عن حب ومحبة ومؤاخاة في الله تعالى، وهكذا يكون حال المسلم إذا هجر شيئاً في الله عوضه الله خيراً منه وأحسن .
ولئن عالج رسول الله r حال المهاجرين بالدعاء، فلقد أتمه أيضاً بتشريع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) فَنَسَخَت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه؛ وورِثَه ذوو رحمه. وبقيت المؤاخاة في الله تعالى بين المسلمين. قال ابن حجر: قال السهيلى: آخى بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة؛ ويتأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عَزَّ الإسلام واجتمع الشمل؛ وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم إخوة. قال ابن كثير: أن الآية عامة تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً.