محبة الشهرة والظهور أو الارتفاع على الأقران أو التكثر بالمسائل
محبة هذه الأمور من أعظم ما يصد عن الإخلاص. ومن هنا كانت عناية المعلمين السابقين بهذا الأمر، وبيان خطورته على عمل الإنسان، فقد أورد الذهبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (سير أعلام النبلاء) عدداً كبيراً من الآثار في ذلك، منها ما قاله سعيد بن الحداد: “ما صد عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة”، ويقول إبراهيم بن أدهم: “ما صدق الله عبد أحب الشهرة”؛ فالإنسان بطبيعته يفرح بمدح الناس له، فيبدأ يزين عمله من أجل ذلك، وينسى الإخلاص فيكون هلاكه.
قال سفيان الثوري: “السلامة في أن لا تحب أن تُعرف”، ويقول بشر بن الحارث الحافي: “لا تعمل لتذكر، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة”.
بل إنهم كانوا ينهون تلاميذهم عن ذكرهم وإطرائهم، فيقول مجاهد لطلابه: “لا تنوهوا بي في الخلق”. وهذا مالك يقول: “جلست إلى ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، واستحلفني ألا أذكر اسمه في الحديث”، وكان الشافعي يقول: “وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ـ يعني كتبه ـ على ألا ينسب إلي منه شيء”.
وكان الإمام أحمد يعد الشهرة من لبلاء فيقول: “أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرف، وقد بليت بالشهرة”.
وهذا من تمام فقههم ـ رحمهم الله ـ فإن المعلم المخلص إذا أدى ما عليه بنية خالصة لله ـ عز وجل ـ لا يضره بعد ذلك أذكره الناس أم لم يذكروه.
لأنه عمل لله تعالى لا للناس، وقد اعتبر الفضيل بن عياض هذا المغزى دليل الإخلاص؛ حيث يقول: “إذا جلست فتكلمت، فلم تبال من ذمك ومن مدحك فتكلم”، ويعلق الذهبي على هذا في كتابه (سير أعلام النبلاء) فيقول: “علامة المخلص الذي قد يحب شهرة ولا يشعر بها أنه إذا عوتب في ذلك لا يحرد (لا يغضب)، ولا يبرئ نفسه، بل يعترف ويقول: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، ولا يكن معجباً بنفسه لا يشعر بعيوبها، بل لا يشعر أنه لا يشعر، فإن هذا داء مزمن”، ويقول ابن القيم: “لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المديح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت”.
فإذا تعلم المعلم وعلَّم ودعا إلى الله مخلصاً له سبحانه ثم أثنى عليه الناس، وبدأ صيته ينتشر فإن هذا لا يؤثر في إخلاصه، فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: “قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: تلك عاجل بشرى المؤمن”، قال النووي: “معناه: هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضا الله تعالى عنه، ومحبته له، فيحببه إلى الخلق… ثم يوضع له القبول في الأرض، هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، إلا فالتعرض مذموم”