إن الترويح أمرٌ مشروعٌ ، بل ومطلوبٌ ؛ لأن النفس البشرية جبلت على حب الراحة بعد عناء العمل ومشقته؛ والإسلام دين يراعي الفطرة الإنسانية.
وغير خاف أن النفس البشرية متعددة الطبائع، متنوعة السلوك، مختلفة السجايا، فهي في بعض الأحايين تحب الجد والحزم، وفي فترات أخرى تميل إلى الدعة واللطافة، كما أنها في بعض الفترات تراها فرحة جَذِلة، وفي ساعات أخرى تراها غضبى أسِفَة، فهي بين خطين مختلفين ، ودائرة بين مزاجين متضادين.
ومن هنا فإن الإسلام جاء ملبياً لحاجات النفس المتعددة، ومراعياً لمتطلباتها المختلفة، فشرع ألوان الترفيه والترويح التي من شأنها نفي السآمة وطرد الملل عن النفس وفق ضوابط شرعية .
وقبل الدخول في تفاصيل الموضوع يجدر بنا بيان معنى الترويح من الناحية اللغوية والاصطلاحية حتى يكون مدخلاً مناسباً للموضوعات اللاحقة.
الترويح في اللغة:
يدور معني كلمة الترويح في أصلها اللغوي علي السعة والانبساط وإزالة التعب ورجوع النشاط إلى الإنسان، وإدخال السرور علي النفس بعد العناء ، يقال: رجل أرْيحي أي واسع الخلق نشيط ، وأراح الرجل أي رجعت له نفسه بعد الإعياء [لسان العرب:2/455] .
الترويح بين العبادات في الاصطلاح :
هناك تعريفات كثيرة لمفهوم الترويح ، ومن تلك التعريفات
1 – هو النشاط الذي يريح من عناء العمل، وغالباً ما ينتج عن تغيير وتسلية ، وفيه إحياء لقدراتهم على العمل.
2- وقيل هو : نشاط تلقائي مقصود لذاته وليس للكسب المادي ، ويمارس في وقت الفراغ لتنمية ملكات الفرد رياضياً واجتماعياً وذهنياً .
3- وقيل : نشاط هادف وممتع لإنسان ويمارسه اختيارياً وبرغبة ذاتية وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعاً ، ويتم غالباً في أوقات الفراغ.
ونستطيع أن نكيّف مفهوم الترويح بين العبادات على ضوء التعريفات السابقة أنه النشاط الهادف الذي يمارسه الإنسان وفق الضوابط الشرعية ليتقوى بها على العبادة .
أهمية الترويح بين العبادات على ضوء السنة النبوية.
الترويح وأثره في تقويم عبادة المسلم لربه:
من المعلوم أن المؤمن إذا مارس العبادة وأداها قد ينتابه بعض من الجَهد والمشقة، فيحس بالكراهة والمَذَل، ويشعر بالضجر والسآمة، فإذا روّح على نفسه بالترفيه المباح، رجع إلى فعل الطاعات بنفسٍ نشطة، وصدرٍ رحب، وعَزْمٍ قوي؛ ولذا فلابدّ من مراعاة التّرويح المباح بين كلّ عبادة حتى يكون فاعلاً في النّفس نحو الاستمرارية في العبادات بعيدة عن السآمة والفتور.
جاء في الحديث الذي يرويه حنظلة رضي الله عنه ((أنه قال: لقيني أبوبكر الصديق رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول ؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى وكأن رأي العين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثير، قال أبوبكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبوبكر الصديق حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن ياحنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات)).
وفي حديث آخر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال : (( دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : ألم أخبر أنّكَ تَقُوْمُ اللّيلَ وتَصُوْمُ النَّهَار؟ قلتُ : بَلَى . قَالَ : فَلاَ تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنّ لِعَيْنِكَ حقًّا، وَإِنّ لزَوْرِكَ عَلَيْك حقاًّ، وَإِنّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنّك عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمر، وإنّ من حَسْبَكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلّ شَهْرٍ ثَلاَثَة أَيّام، فَإِنّ بِكُلّ حَسَنَةٍ عَشر أَمْثَالِهَا ، فَذلكَ الدّهْر كُلّه، قَالَ : فَشَددت فشُدد علي . فقلت : فَإِني أُطِيْقُ غَيْرَ ذَلِكَ ، قَالَ : فَصُمْ مِنْ كُلّ جُمْعَةٍ ثَلاَثَة أَيام . قال : قُلْتُ : فَإِنّي أُطِيْقُ غَيْرَ ذَلِكَ . قَالَ : فَصُمْ صَوْمَ نَبِيّ اللهِ دَاود، قُلْتُ : وَمَا صَوْم نَبي اللهِ دَاود ؟ قال : نِصْف الدّهْر )) [البخاري رقم الحديث 256]. وفي الحديث إلماحة إلى أهمية أخذ الإنسان الراحة البدنية بما يقوي نفسه على العبادة والعمل، واستعادة الحيوية والنشاطولهذا ورد التنبيه على أهمية الترويح بعد أداء الطاعات على لسان السلف -رضوان الله عليهم- :
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : « إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة» [ الآداب الشرعية ، لابن مفلح 2 / 203 ].
ولأهمية الترويح بيّن العلماء بعض النماذج التي يتروّح بها النفس؛ يقول ابن حماعة: « ولا بأس أن يريح نفسه … بتنـزّه وتفرج في المستنـزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيّع عليه زمانه، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاص وينشط البدن» [تذكرة السامع والمتكلم، لابن جماعة ص405] .
الضوابط العملية المعينة على الترويح المباح:
من الأسباب والتطبيقات المعينة على الترويح المباح :
1-مراعاة أوقات الترويح المباح، وهي:
أ- ألا يكون الترويح في الوقت المخصص لحقوق الله ، أو حقوق الناس ، وكذلك لا ترويح في أوقات العمل الرسمي؛ إذ فيه اعتداء على حقوق الناس .
ب- عدم الإفراط في تخصيص معظم الأوقات المباحة للترويح، فالاعتدال والتوسط سمة أساسية في هذا الدين .
2-مراعاة أمكنة الترويح وأخلاقياته، وهي كالآتي:
أ ـ اختيار المكان المناسب للترويح حسب نوع الترويح ، فما يصلح في الساحات العامة قد لا يصلح في المنـزل، والعكس صحيح.
ب- وهكذا عدم إلحاق الأذى بذات المكان أو منشآته؛ فأمكنة الترويح حق مشترك بين جميع الناس .
ج ـ عدم مضايقة المقيمين أو العابرين بمكان الترويح ، وهذا ينطبق على الخلاء والساحات العامة .
3- مراعاة النشاط الترويحي المباح الذي لا يصاحبه شيء من المحرمات .
4-استحضار النية الحسنة، وذلك بأن يقصد المسلم بالترويح التقوي على العبادة، واستعادة النشاط، حتى يكون ترفيهه وترويحه لا يخرج عن إطار العبادات؛ فإنه مطلوب أن تكون حياته كلها في عبادة لله تعالى، قال بعض السلف:« إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب» [جامع العلوم والحكم، لابن رجب ص13].
وجملة القول :
إن التوازن الدقيق في تحقيق العبودية لله عز وجل بين فعل الطاعات والترويح يحقق الشمولية والوسطية في أداء العبادات، وبذلك تثمر عبودية كاملة للخالق بحيث لا يطغى جانب على آخر؛ فالعبودية ليست مشاعر تعبدية فحسب، بل العبودية شاملة لحياة الإنسان كلها؛ فإذا أدى عبادة باقتصاد واستمر عليها؛ أمكنه ذلك أن يأتي ببقية الواجبات المفروضة عليه، ثم إن الترويح بين العبادات يجعلها ميسّرة مقبولة لدى النّفس البشريّة، فلا مشقّة ولا نصب فيها، وفي المقابل لا إفراط في سهولتها بالدّرجة التي تجعل النّفس تتهاون في أمرها، وتهمل القيام بحقها، وبذلك يتبين خطأ غلو بعض العُبّاد الذين لا يرون في الحياة إلا الجد المُرهِق والعمل المتواصل دون النظر إلى شئون الدنيا من التكسب للمعيشة وترويح النفس بالحلال ، بما يضيّعون من يعولون، ويُفّوتون حق أنفسهم، ولربما لا يستمرون على ذلك؛ لأن النفس جبلت على طلب الراحة والميول إلى الترويح.