يُعتبر التدرج سمة وأساسا في التربية الإسلامية وتحقيق أهدافها ومقاصدها, والتي منها تحقيق التآلف الاجتماعي؛ حيث أخذ التدرج ببيعة العقبة الأولى, ثمّ التدرج إلى الثانية, ثمّ توطيد الأمر في المدينة, ووجدت له الأرض الخصبة, فتبع ذلك بعث السفراء, ثمّ الهجرة النبوية, ثمّ بنود المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, كما يتضح في المطالب التالية:
المطلب الأول: بيعة العقبة الأولى والثانية وآثارهما.
لما أراد الله تعالى بأهل المدينة الهداية إلى الإسلام, ونبذ الشحناء والبغضاء والفرقة والحروب الدامية التي دارت بينهم سنين طوال, وإظهار دينه سبحانه وتعالى, وإعزاز أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الموسم كما كان يفعل لعرض دعوته على القبائل, فبينما هو عند العقبة إذ لقي رهطا من المدينة أراد الله بهم خيرا, فقال: (من أنتم؟) قالوا: نفر من الخزرج, قال: (أمن موالي اليهود؟) قالوا: نعم. قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى, فدعاهم إلى الله تعالى, وعرض عليهم الإسلام, وتلا عليهم القرآن, فتأثروا وقال بعضهم لبعض: أتعلمون والله أنه النبي الذي توعدكم به يهود, فلا يسبقنّكم إليه, فأجابوه, وقالوا: إنا قد تركنا قومنا لا ِقوَم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم. وعسى أن يجمعهم الله بك, فسنقدم إليهم وندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك فيه من هذا الدين, فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا, وقد آمنوا, وكانوا ستة نفر كلهم من الخزرج.
فكان هذا اللقاء بداية الثمرة في إسلام أهل المدينة, وإزالة البغضاء والشحناء فيما بينهم, وسلوك الطريق نحو التآلف والتحابب والتواد فيما بينهم, وذلك بتوفيق من الله تعالى, ثمّ باستجابتهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم.
وهكذا انطلق هذا الفريق الموفق من الخزرج داعيا إلى الإسلام في المدينة, فلم تبق دار من دورها إلاّ وفيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم, وواعدوه الموسم القادم عند العقبة, وهي بيعة العقبة الأولى.
الفوائد التربوية المستنبطة من هذا اللقاء.
يستنبط من هذا اللقاء المبارك عدّة فوائد, منها:
أ . أهمية الدعوة في توسيع وتكثير عدد المتآخين في الله, وأهمية إدراك المنهجية الافتتاحية للمدعو بسؤالهم عن هويتهم وأحوالهم, فإن هذا مما يعزز العلاقات, وينشأ التآلف والتحابب كما هو الحال في سؤال الرسول صلى الله عليه وسلّم الأنصار السِّت عن أسمائهم, ثم قال: (أمن موالي يهود؟).
ب . بيان أهمية تقدير المدعويين واحترامهم, وأن هذا مما يقوي العلاقات الاجتماعية وينبذ الفرقة والتشتت بين أفراد المجتمع, ويستنبط ذلك من قوله صلى الله عليه وسلّم: (ألا تجلسون؟) , ففي هذا الأسلوب الدعوي النبوي غاية الأدب والتقدير والاحترام.
ج . بيان أن الإسلام يُذهب الفوارق والعداوات, ويصهر أتباعه في وحدة واحدة عند اعتناقهم لدين الله تعالى من أول لحظة يعتنقه أتباعه إذا كان على الفطرة, فها هو قد أذهب الشحناء بين الأوس والخزرج في أول سنة, فيقدم وفد العقبة من الأوس والخزرج.
د . إثبات أن تنقية المجتمع وتطهيره من الرذائل مقدمة على الجهاد, فالرسول صلى الله عليه وسلّم عرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن, ولم يأمرهم بالجهاد في بداية الأمر.
هـ . أن هذا اللقاء يعتبر بداية مباركة نحو التآلف بين عنصرين من العناصر السكانية في المدينة, فلأول مرة تسلم مجموعة كاملة, ومن بلد بعيد يُرّشح أن يكون منطلقا للدعوة, وكانوا قبل ذلك في حالة عداوة وشر, فانتقلوا من تلك الحالة إلى حالة السلام والخير.
كما يدل ما سبق على عظم الجهود النبوية في سبيل هذه الدعوة, والتأليف بين قلوب المؤمنين, فما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقتا للراحة منذ أُرسل رحمة للعالمين إلى أن توفاه الله تعالى, فما أحوج الدعاة إلى الله للاقتداء بهديه واقتفاء أثره في سبيل نشر هذا الدين الحنيف في أرجاء العالم.
و . بيان أهمية التربية بالتدرج, ومراعاة الفروق الفردية في التربية, فالنبي صلى الله عليه وسلّم قد اكتفى في هذا اللقاء الأول بترغيبهم في الإسلام, وتلاوة القرآن عليهم, ولما رجعوا في العام التالي, بايعهم على العبادات والأخلاق والفضائل, ولما جاءوا في العام التالي, كانت بيعة العقبة الثانية فبايعهم على الجهاد والنصر والإيواء.
ز. بيان سبق الخزرج في تحقيق هذه الألفة بينهم وبين الأوس, وفضلهم في ذلك, فهم أول من التقى مع الرسول صلى الله عليه وسلّم, وعليه انطلقت قافلة الخير والبركة ودخول الأنصار في الإسلام.
ولما كان العام المقبل, أتى الموسم اثنا عشر رجلا من الأنصار, فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعقبة -وهي الأولى- (عشرة من الخزرج واثنان من الأوس), مما يشير إلى أثر نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي, وتأثيرهم على الأوس وجذبهم معهم إلى بيعة العقبة, وكان ذلك بداية التآلف والتواد بين القبيلتين تحت راية الإسلام.
نص بيعة العقبة الأولى:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال وحوله عصابة من أصحابه:(بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوا في معروف, فمن وفّى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه) قال: فبايعناه على ذلك.
ثمرات البيعة وآثارها التربوية في تحقيق التآلف الاجتماعي.
لا بد من وقفة مع هذه البيعة لنتعرف على مدى أثرها على الأنصار بعد أول لقاء مع الخزرج من خلال ما يلي:
1. أن مجيء بعض الأوس مع الخزرج يدل على تطور إيجابي في سبيل التآلف بين القبيلتين, وتجاوز الصراعات الداخلية, والتوجه إلى الإسلام والعمل على إزالة كل شحناء وبغضاء بينهما, وتوفيق القلوب. وتعتبر بيعة العقبة الأولى هي النواة الأولى في تحقيق التآلف والمودة بين الأنصار.
2. بيان ما لتسمية الأوس والخزرج “الأنصار” من الأثر الفعال في سبيل الألفة والاتحاد ووحدة القلوب. فالرسول صلى الله عليه وسلّم سماهم الأنصار في هذه البيعة, ولا يخفى ما لهذه التسمية من الأثر الفعال التي جعلت الأوس والخزرج ينصهرون في اسم جديد تحت راية الإسلام, وينسون الخلافات القبلية, والحمية الجاهلية, فهم أنصار الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلّم, وأنصار دعوته, والداعين إلى دينه, فما أحكمه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلّم حتى في مسائل تبدو بسيطة في ظاهرها.
3. بيان أهم ما يتم به المحافظة على القيم الأخلاقية والاجتماعية في المجتمع, حيث تضمنت البيعة أمور بها يصلح المجتمع, ويتحصن من الرذائل, ويتضامن بها أفرادها, ويتآلفون, والتي منها:
الإيمان بالله وحده وتوحيده وعدم الإشراك به, فالتوحيد هو أساس هذا الدين, وعليه تنبني بقية الشرائع, وهو أساس الوحدة, والألفة, والمودة؛ قال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّــفَ بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون), وكان أول ما بايعهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو التوحيد بالله تعالى, وألاّ يشركوا به شيئا كما بيّنه في قوله صلى الله عليه وسلّم: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا).
2.صيانة الفروج من الزنا وما يترتب على هذا الفعل الشنيع من المفاسد الاجتماعية والصحية والنفسية, إضافة إلى أنه من أشنع الرذائل السلوكية التي حرّمها الله تعالى.
3.التوجيه إلى عدم الإسراف والتبذير الذي يؤدي إلى ضياع الأموال, ويشيع التباهي والتنافس البغيض بين أفراد المجتمع.
فلقد تضمنت هذه البيعة مبادئ وأسس تربوية, واجتماعية وخلقية تعتبر الخطوة الأولى في تخطيط النبي صلى الله عليه وسلّم لجمع الكلمة بين الأوس والخزرج, وتأليف قلوبهم, وتهيّئتهم ليكونوا فعلا أنصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم, وذلك بنبذهم الفرقة والحروب الدامية التي دارت بينهم سنوات عديدة.
بيعة العقبة الثانية:
في موسم الحج التالي من العام الثالث عشر للبعثة النبوية تمت بيعة العقبة الثانية, كما رواها جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مكث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: (من يؤويني, من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة), حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر -كذا قال- فيأتيه قومه فيقولون احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع, حتى بعثنا الله إليه من يثرب, فآويناه وصدقناه, فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه, حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام, ثم ائتمروا جميعا فقلنا حتى متى نترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطرد في جبال مكة ويخاف, فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة, فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا, فقلنا: يا رسول الله نبايعك قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل, والنفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومه لائم, وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة), قال فقمنا إليه فبايعناه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم, فقال رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف, فأما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا, ولا نسلبها أبدا, قال: فقمنا إليه فبايعناه, فأخذ علينا وشرط, ويعطينا على ذلك الجنة.
الفوائد التربوية المستنبطة من بنود البيعة.
لقد تضمنت بيعة العقبة الثانية عدّة بنود, ويُستفاد منها فوائد تربوية مستنبطة من منهج النبي صلّى الله عليه وسلّم في تربية أصحابه, ومنها ما يلي:
1.السمع والطاعة في المنشط والمكره:
لا يتم التآلف والتواد, في أي مجتمع, ولا تتوحد صفوفهم إلاّ باجتماعهم والْتِفافهم على وليّ واحد يسمعون لكلامه, ويطيعونه فيما أمرهم في غير معصية الله, ولا ينازعوه فيما ولاّه الله عليهم, فإنّ هذه المنازعة توجب شرّا كثيرا, وفتنا عظيمة, وتفرقا بين المسلمين, وعدم تآلف قلوبهم وتضامنهم فيما بينهم.
2. النفقة في العسر واليسر.
يؤكد لنا هذا البند أهمية الإنفاق, والكرم, وأثرهما في سبيل تحقيق الألفة والمحبة بين الناس، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (تهادوا تحابوا), ويعني هذا الحديث أن النفقة من أسباب التواصل الاجتماعي التي تؤكد المودة والألفة, وتذهب العداوة بين الناس, وتزيد في قلب المسلم حبا لأخيه المسلم, وقد ثبت ذلك في الرعيل الأول, في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما سبق ذكره في الفقرات الماضية.
3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لا تستقيم أمور المسلمين, ولا تتحد صفوفهم, ولا تزول عنهم الرذائل والمنكرات, ولا يتحقق التآلف والتواد فيما بينهم إلاّ بقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كما أن تركه من أسباب التفرق والتشتت, وانتشار الشحناء والبغضاء وتسلط أشرار المجتمع على خيارهم, قال صلّى الله عليه وسلّم: (هل تدرون فيما سخط الله على بني إسرائيل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال إن الرجل كان يرى الرجل منهم على معصية فينهاه بعد النهي ثم يلقاه بعد فيصافحه ويواكله ويشاربه كأنه لم يره على معصيته, حتى كثر ذلك فيهم فلما رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعن من قلبكم).
ومما يستنبط من هذه البيعة كذلك؛ فطنة الأنصار رضي الله عنهم, وإلهام الله لهم الثواب حيث إنهم عرفوا, وتيقنوا أن الألفة والتضامن وجمع الكلمة بين العرب خصوصا, وبين المسلمين عموما لا تكون إلاّ بمؤازرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونصرته في تبليغ الرسالة, ويستنبط ذلك من قول أسعد بن زرارة رضي الله عنه: “وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة”.
وبعد هذه البيعة, عاد الأنصار إلى المدينة, وقد قطعوا على أنفسهم عهد الولاء والنصرة, والحماية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه, وتفتحت قلوبهم لاستقبال إخوانهم المهاجرين بكل فرح واستبشار ومحبة وألفة.