إن من سنن الله تعالى في عباده الابتلاء للفرد والجماعات، ولقد ابتلي الأنبياء والصالحون من عباده، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأبرار رضي الله تعالى عنهم. فقد ابتلي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبنائه وبعض زوجاته، وتكالب أعدائه، ورميه بالحجارة، وكذلك أصحابه عليه الصلاة والسلام، حتى قال الله تعالى في وصفهم يوم الأحزاب
( إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديد)
ولقد ابتلي المسلمون في فلسطين عموماً وفي هذا الشهر خصوصاً، في شهر الله المحرم من عام 1430هـ حيث حوصر المسلمون في غزة، فقلت المياه والأطعمة، فجاء الجوع يحط بكلكله عليهم، وألهب العطش القاسي حناجرهم، فأصبحوا يتضورون جوعاً وألماً، ثم جاءتهم هجمات العدو بالنار الحارقة، بمدافع الموت وصواريخ الإبادة، حتى رثاهم الأعداء وتعاطفت معهم الشعوب المنصفة، وكان حالهم في ابتلائهم حال المؤمنين الصابرين، نقلتها عدسات البث المباشر وهم في تهليل وتكبير وحمد وثناء لله تعالى. فذلك رجل يفقد أغلب أهله ويردد (الحمد لله ،، الحمد لله) وتلك امرأة تفقد أبنائها أو بعضا منهم وهي تردد (الله أكبر،، الله أكبر،، الحمد لله)
ومشهد ثالث لأطفال تمزقت أجسادهم بنيران الكفرة الفجرة، وتفقأت أعينهم، وهم في صبر على مصابهم. ومشهد عام للمصابين والثكالى، وهم يقولون : (سنصبر على هذا البلاء، وحسبنا الله ونعم الوكيل) .
فهي صورة تجسد الإيمان أثناء المصيبة ، والتفاعل الإيجابي معها. وأن في تلك الصور ما يقدم للأمة المسلمة العديد من الدروس التي منها:
1ـ أن هذه المشاهد أيقظت الأمة من سبات نومها، ومن لهوها.
2ـ عرفت الأمة المعاناة الحقيقة التي يعيشها أهل فلسطين، ولئن ظهرت للأمة زاوية منها، وغابت عنها كمال الصورة، فقد تجلت اليوم بكل أبعادها وزواياها.
3ـ تعلمت الأمة أن الفئة القليلة المؤمنة تستطيع أن تصمد وأن تواجه قوة الكفر في أوسع قدراته وإمكاناته.
4ـ تعلمت الأمة أن الإيمان أساس القوة والنصر والتمكين.
5ـ عرفت الأمة من أهل غزة مكانة ومنزلة أهل فلسطين، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6ـ عرفت الأمة من صوت أهل فلسطين اهتمامهم بالقرآن لكريم، وبناء المساجد، وعنايتهم بلغتهم في منطقتهم. وقد سمع العالم صوت الأذان وهو يخالط صوت المدافع، ويعلوا عليها، فلم توقفه مدافع النار والدمار.
7ـ علمنا هذا الابتلاء أن شعوب أمة الإسلام تتوحد إذا حل بها المصاب، ولهذه الدلالة حساباتها عند العدو.
8ـ عرف العالم أن قوة الإسلام لا تكمن في ترسانته فقط، بل في إيمانه، وأنها قوة لا يمكن قهرها أبداً، وإن جاز أن يصيبها العدو في أطراف جسدها، ولكن لا يستطيع إبادتها ولا كسرها أبداً.
9ـ سجل التاريخ في هذا الشهر انعطافاً جديداً للأمة.
10ـ عرف الكفر حجمه الصغير أمام الإيمان ، مهما انتفخت أرصدته وقويت ترسانته.
11ـ عرفت الأمة مكانة التربية الدينية في تشكيل قوتها التي لا تهزم بها. فرجال اليوم في مقاومة الكفر هم أطفال الأمس، قد احتضنتهم محاضن الحلقات القرآنية، والدروس الشرعية، ولغتهم اللغة العربية.
12ـ تعلمت الأمة أن التربية الحقيقية ليست هي محاكاة الكفار في شعاراتهم وزيهم ومأكلهم ومشربهم وأخلاقهم وعاداتهم، بل هي تربية الإسلام .
فهذه بعضً دروس الابتلاء في غزة، ونسأل الله تعالى أن يحمي أهل غزة وينصرهم بجند من عنده، وأن يرفع رايتهم، ويكسر شوكة عدوهم، وحمداً لله على كل حال وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.