الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
إن الحديث عن الألقاب العلمية أكبر من أن يحتويه مقال، أو أن تستوفيه رسالة أو كتاب، لكثرتها وقلة العناية بمدلولاتها، فالباحث في الدراسات العليا المعاصرة مجتهد في مجاله ، وكلنا يعلم قدر عظم هذه الكلمة عند أسلاف علمائنا، وقد كان من سمات اطلاقات علماء المسلمين للألقاب العناية بالمبنى والمعنى معا، وأحاول قدر المستطاع أن أقف على بعض الألقاب العلمية في التراث الإسلامي ومدلولاتها التربوية، لأترك للقارئ الكريم أن يعقد المقارنة الذهنية بين الأمس واليوم، فمن الألقاب العلمية المشتهرة ما يأتي:
1. العالم:
من المصطلحات الشائعة الاستخدام في التراث العلمي الإسلامي، ومع شيوع استخدامه إلا أن دلالته واسعة، ولم يخضع للتحديد، والعالم أسم فاعل من العلم، ويطلق على العلماء الأكابر، ولا يعرف قدر علمه إلا عن طريق التدريس والتأليف وما شابهه، ويشير عمر التومي إلى التداخل بين العالم والمعلم في الفكر التربوي الإسلامي ، وذلك أن الإسلام يقرن بين العالم والتعليم، حيث رغب لكل من تعلم أن يعلم ما تعلم، كما أنه لا يعترف بمعلم ما لم يكن عالما، ولهذا فإن التداخل أمر طبيعي.
2. المعلم:
ورد مصطلح المعلم في السنة النبوية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: “إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، وإنما بعثني معلما ميسرا” وأطلقه الصحابة على نبي الأمة صلى الله عليه وسلم: “ما رأيت معلما أحسن منه قط، فو الله ما كهرني ولا زجرني…”ويبدوا أن هذا المصطلح يطلق على كل ماهر خبير في صنعته، سواء كانت علمية أو حرفية، يقول ابن خلدون: “ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى المعلمين فيها معتبرا” .
3. الشيخ:
يذكر القلقشندي أن الشيخ من “ألقاب العلماء والصلحاء، وأصله في اللغة الطاعن في السنّ، ولقب به أهل العلم والصلاح توقيرا لهم، كما يوقر الشيخ الكبير” ويطلق الشيخ على من شاخ في تحصيل العلم والمعرفة وبلغ فيها أعلى المراتب، بغض النظر عن عمره وسنه، يقول الخطيب البغدادي: أن الحسن بن عرفة كان يشار إليه بالشيخ المعلم، والشيخ يتمتع بمكانة علمية واجتماعية كبيرة.
4. الفقيه:
يعنون الخطيب أحد كتبه بـ “الفقيه والمتفقه” والفقيه من أقدم ألقاب العلماء في تاريخ الفكر الإسلامي، حيث ارتبط هذا اللقب بالتعمق في العلوم الشرعية وخاصة الفقه، وقد أطلق على القائم بمهمة تعليم الناس أمور دينهم.
5. الأستاذ:
ويرادف المعلم في مفهومه، وأصله كلمة فارسية تعنى الماهر بالشيء، ويعقد الزرنوجي في كتابه بابا بعنوان: “اختيار المعلم والأستاذ والشريك والثبات عليه” ويقول يحيى مراد: بأن الأستاذ أكمل من الشيخ في الأحوال، وأعلى منه بالمعارف بالأنوال عند الصوفية وكان يطلق على أفاضل المعلمين لقب الأستاذ، وكان الإمام مسلم يلقب شيخه الإمام البخاري بقوله: “أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين” ويقول محمد شاكر عن ابن الجوزي: “أستاذ دار أمير المؤمنين المستعصم بالله” .
6. المؤدب:
وهذا اللقب يطلق على من مارس التدريس للصغار، فمعلموا المكاتب كان يطلق عليهم مؤدبوا المكاتب، ويؤلف الإمام ابن حجر الهيتمي كتابا خاصا لهذه الفئة من المعلمين أسماه: “تحرير المقال فيما يحتاج إليه مؤدبوا الأطفال” وقد يكونون مؤدبون خاصة لأولاد الملوك ومن في حكمهم، وفي المؤدبين والتأديب رسالة علمية بالجامعة الإسلامية لأخينا الشيخ سليمان قندو.
7. المفيد:
وهو اسم فاعل من الإفادة، وهو إنالة الشخص ما لم يكن حاصلا عليه، وبهذا يرادف المعلم والأستاذ، واستخدمه العلموي بما يرادف العالم أو المفتى، فقد جاء في مقدمة كتابه: “المعيد في أدب المفيد والمستفيد” ما يلي:”فهذه رسالة مختصرة في فضيلة العلم والعالم والمتعلم، والمفتى والمستفتي” ويذهب يحيى مراد بأن المفيد من الطلاب القدامى الذين أنهوا برنامجهم الدراسي، وعليه أن يعتمد ما يحصل به في الدرس فائدة من بحث زائد على بحث الجماعة ونحو ذلك، وقد سمي مفيدا لخصوصية الفائدة التي يقدمها لنفسه، ولغيره من الطلبة، أو المدرسين الذين قد يكلفونه بأبحاث أو أعمال تحضيرية وهو بهذا مساعد الأستاذ، أو المتدرب في التربية الميدانية.
8. المملي:
وهو العالم أو المحدث الذي يجلس لإملاء علمه أو كتبه على الطلبة، حيت كانت تعقد مجالس خاصة للإملاء والتحديث، وقد استخدم السمعاني هذا اللقب عنوانا لكتابه في أدب المملي والمستملي.
9. المعيد:
والأصل في المعيد أنه إذا ألقى الأستاذ الدرس وانصرف أعاد المعيد للطلبة ما ألقاه المدرس إليهم، يقول ابن جماعة فيه: “من صلحاء الفضلاء، وفضلاء الصلحاء، صبورا على أخلاق الطلبة، حريصا على فائدتهم وانتفاعهم به، قائما على وظيفة أشغالهم” ويقول الأبراشي: “تعتبر وظيفة المعيد فكرة إسلامية أصيلة، وقد تأثرت الجامعات الأجنبية فيما بعد بهذا النظام، فأخذت في تعيين المعيدين في الجامعات بعد تخرجهم فيها لتمرينهم على مهنة التدريس وتشجيعهم على الاستمرار في الدراسة والبحث العلمي”
فتلك بعض ألقاب علماء المسلمين العلمية في مختلف مسيرتهم التربوية، ويلحظ الناظر أنها ألقاب تنبئ عن مكانته التدريسية والتعليمية، فالعلم إذا افتقد عنصر التدريس ضمر وتوقف، وليس للناس سبيل إلى معرفة علم العالم إلا عن طريق ممارسة التدريس، كما يلاحظ مطابقة الوصف للموصوف، وملاءمة اللقب بصاحبه، فتلك منهجية علمية تفيدنا في اطلاقاتنا المعاصرة للألقاب العلمية، وتوقفنا على البعد الأخلاقي والإيماني في التلقيب العلمي.
وفي الختام لا بد من التنويه على بحثين علميين قيميين في هذا الباب، أولها للعلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله بعنوان: “تغريب الألقاب العلمية” وثانيهما للدكتور/ عبد الحق حميش بعنوان: “مصطلحات الألقاب عند فقهاء المذاهب الأربعة” ففيهما تأصيل قويّ لأهمية العناية بالألقاب العلمية.
وصل اللهم وسلم على نبيا محمد وآله وصحبه أجمعين.