عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا: فأرسلني يوما لحاجة، فقلت :والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال فنظرت إليه وهو يضحك ،فقال : يا أنيس أذهبت حيث أمرتك ؟ قال: قلت : نعم أنا أذهب يا رسول الله .
في هذا الحديث قضايا تربوية تحتاج إلى بسط وشيء من التأمل :
أن ثناء أنس رضي الله عنه على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره بأنه الأحسن والأكمل ، إنما كان عن دراية وخبرة اكتسبها من خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وفي أسفاره ،ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم التربوية معه رضي الله عنه في أحيان أخرى ، ومنها هذا الحديث ، وهذه الشهادة من أنس رضي الله عنه تفيد أن الطفل يلتقط بعينه أكثر مما يسمع بأذنيه ، فيجب على الآباء الانتباه لما يبدر منهم أمام أولادهم من تصرفات قد تؤثر سلبا على سلوكهم ردحا من الزمن.
في الحديث حرص الأولياء على القدوة بإرسالهم إلى من يرون فيه حسن الأسوة ؛ إذ إن تأثر أنس رضي الله عنه بخلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه يعود الفضل فيه بعد الله عز وجل لأسرته التي كانت تحرص على صلاحه وتأديبه وتربيته، فترسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه ويكون قريبا منه ، فيأخذ من سمته ودلّه وتوجيهاته ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس فليخدمك. قال فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته :لم صنعت هذا هكذا ، ولا لشيء لم أصنعه : لم تصنع هذا هكذا. وعن أنس رضي الله عنه قال : “أخذت أم سليم بيدي مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتت بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله؛ هذا ابني ، وهو غلام كاتب ، قال : فخدمته تسع سنين فما قال لي لشيء قط صنعته أسأت أو بئسما صنعت ،وعن أنس رضي الله عنه قال : ” : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين ، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته .
ومن هنا أخذ العلماء مشروعية توكيل مؤدب أو معلم يتولى تربية وتعليم الأبناء إذا كانوا يرون فيه الأهلية والقدرة على رعاية الأطفال بقوله وفعله ،يقول القابسي رحمه الله : (( ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مؤونة تأديبهم ، ويبصرهم استقامة أحوالهم وما ينمي لهم في الخير أفهامهم، ويبعد عن الشر ما لهم، وهذه عناية لا يكثر المتطوعون لها )) وهي مسؤولية تقع على الوالدين في تتبع القدوات الصالحة لأبنائهم وانتقاءها ، وفي معرفة أثرها على الأبناء ، ولا يحسبن الوالد أو الأم أنه بمجرد إرسال الابن إلى المدرسة أو أي مكان للتأديب والتربية قد انتهت المهمة وبرئت الذمة، بل هما مطالبان شرعا برعايته ابتداء وانتهاء.قال ابن القيم نقلا عن بعض أهل العلم : (( إن الله يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال تعالى : (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) قال تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) أي علموهم وأدبوهم كما قال علي رضي الله عنه ، … فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم )) .