الآداب العلمية للمعلم .
وهي الآداب التي لها صلة مباشرة بالمادة العلمية التي تعلمها المعلم وسيقوم بتعليمها ، فإن هذه المادة العلمية لها آداب ينبغي للمعلم أن يراعيها ، وأن يحاول التحلي بها واكتسابها ، وقد أورد الذهبي – رحمه الله – في كتابه ( سير أعلام النبلاء ) شدة عناية المعلمين الأوائل بهذه الآداب ، والتزامهم بها ، والتي يمكن إبرازها في النقاط الآتية :
أولاً / إجلال العلم وتقديره .
فإن للعلم فضلاً كبيراً ، ينبغي لمن حمله أن يعرف مقداره ، فمن عرف قدر العلم أوصله إلى أعلى المراتب ، يقول ربيعة الرأي : ” العلم وسيلة إلى كل فضيلة “، ويقول ابن القيم : ” ولو لم يكن في العلم إلا القرب من رب العالمين ، والالتحاق بعالم الملائكة ، وصحبه الملأ الأعلى ، لكفى به شرفًا وفضلاً ، فكيف وعز الدنيا والآخرة منوط به ، مشروط بحصوله “، ويبين الأعمش قدر نفسه وما نال من الرفعة بسبب العلم الذي عنده فيقول : ” لولا القرآن وهذا العلم عندي لكنت من بقالي الكوفة “.
ويقول أبو العالية : ” كان ابن عباس يرفعني على السرير وقريش أسفل من السرير ، فتغامزت بي قريش ، فقال ابن عباس : ” هكذا العلم يزيد الشريف شرفًا ، ويجلس المملوك على الأسرة “.
فالعلم ” تركة الأنبياء وتراثهم ، وأهله عصبتهم ووراثهم ، وهو حياة القلوب ، ونور البصائر ، وشفاء الصدور ، ورياض العقول ، ولذة الأرواح ، وأنس المستوحشين ، ودليل المتحيرين ، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال “، ولذا كان قتادة يقول : ” باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول “، وكان سفيان الثوري لا يعدل بطلب العلم شيئًا فيقول : ” ما علمنا شيئًا أفضل من طلب العلم بنية “.
ويقول الشافعي : ” طلب العلم أفضل من صلاة النافلة “، ولما قدم أبو زرعة الرازي على أحمد بن حنبل كان كثير المذاكرة له فكان أحمد يقول : ” ما صليت اليوم غير الفريضة ، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي “.
وإن من إجلال العلم وتقديره أن يتكلم الإنسان به عند من يريده ويرغب في الاستفادة منه ، يقول عكرمة : ” إن للعـلم ثمنًا فأعطوه ثمنـه قالوا : وما ثمنه يا أبا عبد الله ؟ قال : أن تضعه عند من يحسن حفظه ولا يضيعه “.
ويـقول مـالك : ” . . . وذل وإهـانة للعلم أن يتكلم الرجل بالعـلم عنـد من لا يطيعه “.
كما أن من إجلال العلم الظهور بمظهر أهل العلم ، والالتزام بآداب العلم ، وفي ذلك يقول مالك : ” حق على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية “، ويقول أبو عاصم: “من طلب الحديث فقد طلب أعلى الأمور فيجب أن يكون خير الناس ” .
ومن إجلال العلم احترام أهله ، ومعاملتهم بكل تقدير ، وذكرهم بالجميل ، يقول أبو محمد التميمي: ” يقبح بكم أن تستفيدوا منا ثم تذكرونا فلا تترحموا علينا “، وقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في احترام معلميهم ، وإظهار ذلك لهم ، إيذانًا منهم بعظم مكانة العلم وعلو منـزلته عندهم ، فمنهم من كان يذكر معلمه فيقول : قال أستاذي أو معلمي ونحو ذلك ، ولا يذكره باسمه المجرد .
كما كان سفيان الثوري إذا سأل عن شعبة يقول : ” ما فعل أستاذنا
شعبة ؟ “، ويقول الشافعي : ” مالك معلمي وعنه أخذت العلم “، ويقول
أبو عوانة : ” يحيى بن سعيد – القطان – معلمنا “، وكان الحافظ عبد الغني الأزدي إذا حكى عن الدار قطني قال : ” قال أستاذي “، ومنهم من كان يتجاوز ذلك إلى تقبيل الرأس واليد واللسان ، كما يقول أبو عثمان المازني : ” كنا عند أبي زيد فجاء الأصمعي فأكب على رأسه وجلس وقال : هذا عالمنا ومعلمنا منذ ثلاثين سنة ، فبينا نحن كذلك إذ جاءه خلف الأحمر فأكب على رأسه وقال : هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة “.
وكان مسلم يقول للبخاري : ” دعني أقـبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله “، وقال له مرة بعدما قبل ما بين عينيه : ” دعني أقبل رجليك “، وقال إبراهيم بن الأشعث : ” رأيت سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل مرتين “، ولما دخل حسين الجعفي قام إليه سفيان بن عيينة فقبل يده ”
وجاء مـرة سهل بن عبد الله التستري إلى أبي داود فقال له : ” لي إليك حاجة ، فقال : وما هي ؟ قال : حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان ، قال : نعم ، قال : أخرج إلي لسانك الذي تحـدث به أحاديث رسـول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله ، فأخرج إليه لسانه فقبله “.