إن منزلة الحبّ في الله تعالى عظيمة المكانة, ولا يكمل إيمان العبد حتى يحب أخاه كما قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا) ، وقد عدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم المتحابّين في الله ضمن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه, قال ابن عثيمين في شرح هذا الحديث: “يعني أنّهما جَرَتْ بينهما محبة, لكنّها محبة في الله, لا في مال, ولا جاه, ولا نسب, ولا أيّ شيء, إنّما هو محبة الله عزّ وجلّ ” , وقد ظهر هذا الحبّ في حياة الصحابة رضي الله عنهم حيث إنّ الأنصار قد أحبّوا إخوانهم المهاجرين وواسوهم بأنفسهم وزادوا على ذلك بأنهم آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا, وقد وصفهم الله بصفة الحب فيما بينهم في قوله تعالى : ( والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) . فيحبون من هاجر إليهم لأنّهم إخوانهم ولهذا لمّا هاجروا آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, أي جعلهم إخواناً, وفي قوله تعالى : ( ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) أي لا يجدون في صدورهم حسداً مماّ أوتي المهاجرون من الفضل والولاية والنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل , قال: (لا), فقالوا: تكفونا المئونة ونَشرككُم في الثمرة, قالوا: سمعنا وأطعنا .
فهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين, وقد كانت أموالهم هي النخيل, فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم , وأراد أمرا تكون فيه المواساة من غير إجحاف بالأنصار , فاستقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم, والبذل السخي وبهذه المشاركة الفعالة والتسابق إلى الإيواء تدل قوة المحبة وعظم التآلف الاجتماعي الذي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم في المجتمع المدني في أول بنائه.
وهكذا كان شأن الأنصار والمهاجرين بعد أن كانوا متباغضين, وفي حروب شنيعة دارت بينهم سنين عديدة, فألّف الله بين هذه القلوب المتنافرة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فأصبحوا إخوانا يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) , وهذا بتوفيق الله سبحانه وتعالى, ثمّ بالقيام بما أمر الشرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى في شأن الأنصار: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) .