كل ما سبق ذكره في المقالة السابقة يعتبر آفات ومعوقات لتحقيق التآلف والمودة والتضامن بين المسلمين, ومن عوامل إزالة تلك المعوقات في منهج التربية الإسلامية ما يلي:
أولا: العفو والصفح:
يعتبر العفو والصفح من الأخلاق الرفيعة التي تساعد على إزالة كل ما يؤدي إلى البغضاء, أوما ينافي التآلف بين أفراد المجتمع, فالخلطة التي تحصل بين الناس في أي مجتمع تولد غالبا شيئا من الخلاف بين الناس, لكن المسلم المستجيب لهدي دينه, يعف ويصفح لما يعلم في ذلك من الأجر والثواب العظيم من الله تعالى, قال الله تعالى :(وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين), وقالتعالىفي شأن العفو والصفح: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من أي الحور شاء).
ولنا في رسول اللهصلى الله عليه وسلمأسوة حسنة في هذا الخلق العظيم, فقد صفح عن قريش حينما مكنه الله تعالى منهم, فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا فأنتم الطلقاء), وأدّى ذلك إلى إسلامهم وتآلفهم فيما بينهم, وهكذا كان مع زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي آذى المسلمين وحالف عليهم, وأشاع السوء على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبيصلى الله عليه وسلم, وآذى النبيصلى الله عليه وسلمأشد الأذى, ومع هذا كله, يمرض هذا المنافق, فيموت فيأتي ولده إلى النبيصلى الله عليه وسلميطلب منه الصفح عن أبيه, فيصفح رسول اللهصلى الله عليه وسلم, ثم يطلب منه أن يُكْفَّن في قميصه فمنحه إياه, ثم طلب منه أن يصلي عليه ويستغفر له فيستجيب عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له.
فوائد العفو وآثاره:
للعفو والصفح فوائد جليلة تعود للفرد والمجتمع, ومنها ما يلي:
أ . رضا الله تعالى على العبد, وهو المقصد الأول, والمطلوب.
ب .كسب محبة الناس لمن يعف ويصفح عن المسلمين.
ج . ثناء الناس وتوقيرهم وإجلالهم لصاحب العفو.
د . أن العفو سبب لتأليف القلوب وإزالة البغضاء والشحناء بينهم.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن العفو يكون فيما لا يترتب عليه مفسدة, أو مخالفة لشرع الله تعالى, فإنه حينئذ لا يجوز العفو, وذلك لما قرره العلماء من أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ثانيا: حفظ اللسان:
لقد أمر الله تعالى بطيب الكلام وحسن القول,وقال تعالى:(وَقُولُوا للنَّاسِ حُسْناً), كما حث الرسولصلى الله عليه وسلمالمسلم أن يصون لسانه, وأن يتحرز في كلامه, فلا ينطق إلا صدقا, ولا يقول إلاّ خيرا , ولا يتكلم إلا فيما يعود إليه وإلى المجتمع بمنفعة. قالصلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
وكف اللسان من الأمور التي تقوي العلاقات الاجتماعية, وتزيل البغضاء والشحناء بين أفراد المجتمع.
فالكلام نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على الإنسان, وأوجب الله تعالى حفظها والقيام بحقها, وعدم إيذاء الناس بها, حيث إن ذلك مما يعوّق ويزيل الألفة والمودّة والتكاتف بين المسلمين, كما يترتب على إطلاق اللسان وعيد عظيم وذنب جسيم على صاحبه, قالصلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
ولقد تأثر المجتمع النبوي بذلك تأثرا عظيما, يُروى أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه, فقال عمر: مه غفر الله لك. فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا الذي أوردني الموارد, وقال ابن بريدة: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما أخذ بلسانه وهو يقول: ويحك قل خيرا تغنم, أو اسكت عن سوء تسلم. وإلا فاعلم أنك ستندم, قال: فقيل له: يا ابن عباس لِمَ تقول هذا؟ قال إنه بلغني أن الإنسان أراه قال ليس على شيء من جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال به خيرا أو أملى به خيرا, وكان ابن مسعودرضي الله عنهيحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان, وقال الحسن: اللسان أمير البدن فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت وإذا عف عفت.
وهكذا كان الصحابة يمتثلون بتعاليم رسول الهدى والحبيب المصطفىصلى الله عليه وسلم, فتلك النماذج تمثل القدوة في عقل اللسان إلاّ عن حق يقوله, أو باطل يدحضه, أو حكمة ينشرها, فالمسلم عف اللسان, طيب الكلام, ولا يسيء إلى أحد, ولا يضر أحدا بلسانه, ولا يسخر من عباد الله, ولا يتكلم بباطل, ويبتعد في حديثه عن كل ما يؤذي أخاه في الدين. والواجب على من علم من أخيه زلة أن يستر عيبه ويناصحه, أو يرفع أمره إلى ولي الأمر إذا اقتضت المصلحة ذلك, أما أن يتخذ من زلّته موضوعا يتحدث عنه في المجالس فإن ذلك من أقبح الخصال، وبهذا يعيش أفراد المجتمع حياة طيبة, متآلفين, متحابين, متعاونين, ممتثلين قول المصطفىصلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
ثالثا: الهدية والكرم:
لقد اهتمت التربية الإسلامية بالعلاقات الاجتماعية أشد الاهتمام, وعنت بها عناية كبيرة, وبنت الصلة بين المؤمنين على أساس وثيق من الألفة والمحبة وحسن المودة, وقد حث الإسلام على كل ما يقرب النفوس ويوحّد القلوب, وحذّر عن كل ما يثير الشحناء والبغضاء بين المسلمين, وذلك لأن المجتمع الإسلامي مجتمع قائم على أساس التآلف والتراحم والتواد والتناصر, ومن الأمور التي تسهم في تأليف القلوب, وتساعد على إزالة ما يعوق التآلف والتواد: التهادي والكرم بين أفراد المجتمع, الذي رغّب فيها الإسلام, ولفت أنظار المسلمين إليها, وقد جاء في الحديث أن النبيصلى الله عليه وسلمقال: (تهادوا تحابوا), والمهدي إليه ينبغي أن يقبل الهدية ولو كانت يسيرا, وأن يشكر عليها, ويظهر السرور بها اقتداء بالرسولصلى الله عليه وسلمالقائل : (ولو دُعيت إلى كراع لأجبتُ, ولو أُهدي إلي كراع لقبلت). فالهدية وإن كانت تولد المحبة في القلوب, فإن استردادها مما يولّد العداوة والبغضاء, ويدعوا إلى القطيعة والجفاء.
آثار التهادي في المجتمع:
أ . أنه يعزّز ويقوي الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
ب . أنه يجمع نفوس المؤمنين على المحبة والألفة.
ج . يزيل ما قد علق بالنفوس من شوائب الحقد والضغن.
د . يقوي روح التسامح والتعاون في المجتمع.
فبتطبيق ما سبق ذكره من أسباب إزالة معوقات التآلف الاجتماعي, يعيش المجتمع الإسلامي حياة طيبة لا تنافر فيها ولا تباغض, كما عاشها الرعيل الأول من الصحابة في عهد الرسولصلى الله عليه وسلموخلفائه الراشدين.
فقد رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكث سنوات في ولايته في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بدون أن يتقاضى عنده اثنان, وذلك لتآلف القلوب, وروح التسامح, وحب الصحابة بعضهم البعض, فهنيئا لمن اتبع سنتهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.