في ظل الضغوظ المعاشية المعاصرة، واستيلاء الهموم على التفكير، والتي لم يسلم منها الصغير والكبير، يزداد رغبة الناس في راحة البال، وتلك الرغبة هي القاسم المشترك بين بني البشر في فكر ابن جزم، إذ يقول في الأخلاق والسير: “تطلبت غرضا استوى الناس في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا، وهو طرد الهم” ولعل ما يقصده ابن حزم من طرد الهم هو ما يقصده المحدثون والمعاصرون بالسعادة، وذلك موضوع آخر وواسع، وما أريد في هذا المقال هو أهمية الفراغ الذهني للطالب، وما يمكن أن يكون من أثر على تحصيله.
إن المشاغل اليومية المتزايدة، والهموم التي تأخذ الطالب يمينا ويسارا، لا تقل خطراً على الطالب من البلادة الفكرية ، ذلك أن الهموم والمشاغل الذهنية معوق رئيس للتحصيل الجيد، وبالتالي فلن يحصل المشغول ذهنياً على مراده من القوة العلمية، لأن فكره قد قد توزع بين طلب العلم وغيره من الهموم، ولهذا كان القدماء يقولون، “العلم أن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك لم تنل منه شيئا” وتلك هي ما يمكن أن يفسر به الانطلاقة المبكرة للأوقاف على التعليم وطلاب العلم في التاريخ الإسلامي، كما هي أيضا ما يفسر به تلك الأقوال السلفية الكثيرة والتي لا يمكن فهمها إلا إذا استصحبت أهمية فراغ البال للطالب، يقول أحدهم: ” من تزوج فقد ركب البحر، ومن ولد له فقد غرق به” لما لهذين من هموم على الطالب.
والتفرغ الذهني التام وراء تحصيل أبي هريرة الصحابي الجليل للكثير من العلوم النبوية،بعد توفيق الله تعالى له. يقول: (كنت امرأ من أهل الصفة، وكان إخواننا المهاجرين يشغلهم الصفق في الأسواق، وكان إخواننا الأنصار تشغلهم ضيعاتهم)، وذات الشيء وراء الكثيرين ممن نبغوا في التحصيل، وأدركوا المرحلة العالية في العلم.
ولعل الآية الكريمة في سورة الأحزاب: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) أصل في تفريغ القلب عن الأشغال، والانقطاع للتحصيل، فقلب يحمل هما في المعاش اليومي لن يحمل هم العلم والتحصيل.
والقاعدة التربوية التي ذكرها ابن جماعة في تذكرته تقول: “الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق” إشارة إلى تنبه السلف لأهمية الفراغ القلبي في التحصيل، ويشهد لذلك قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله ونقله عنه الزرنوجي في تعليم المتعلم طريق التعلم: “يستعان على الفقه بجمع الهم” فالهم إذا كان مجموعا كان أقدر على الفقه وفهم مسائله، واقتصار الإمام على الفقه من باب التمثيل لا الحصر لأنها مهنته وتخصصه، ويأكد ذلك الإمام الشافعيفيما يذكره عنه النووي “لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة” ويبالغ الخطيب البغدادي في الانقطاع الكامل للتحصيل وإبعاد المشاغل عن الطالب فيقول موجها: ” لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكّانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته”
وأخيرا يلخص لنا ابن جماعة ما نقصده من جمع هم الطالب على التحصيل، وضرورة فراغ البال لاكتساب العلم فيقول: “رأس مال الطالب جمع الخاطر وإجماع القلب، واشتغال الفكر “وهكذا نجد عناية علماء المسلمين بهذا الجانب النفسي في تحقيق التحصيل العلمي، وطبقوه في حياتهم التعليمية، فرحمهم الله برحمته، وبرحمنا معهم بكرمه.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.