وبناءً على ماذكر في الجزء الأول فأهمية آداب المعلم هي:
1 ) إن التزام المعلم بهذه الآداب ، وتحليه بها يساعده على أداء مهمته التعليمية ، والقيام بوظيفته التربوية ، على أكمل وجه ، كما أن تخليه عنها ، وإهماله لبعضها ، يؤدي إلى ضعف سير العمل التربوي داخل المدرسة أو خارجها ، فإن ” كل عملية تربوية يتولى أمرها معلم لا يعرف جوانب رسالته ، وأخلاقيات مهنته ، ولا يدرك آثارها ، وانعكاساتها التربوية على مستقبل الفرد والمجتمع ، فهي عملية فاشلة ” إذ أن ” أدب المرء عنوان سعادته وفلاحه ، وقلة أدبه عنوان شقاوته
وبواره ، فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ، ولا استجلب حرمانها بمثل قلة
الأدب ” .
2 ) إن آداب المعلم وأخلاقه الظاهرة عليه ، هي محل نظر الناس عامة ، وطلابه خاصة ، فهم يرقبون حركاته وسكناته ، وينظرون إلى أفعاله وتصرفاته ، لأنها المقياس عندهم لمدى استفادته من العلم الذي تحمَّله ، ولمصداقية ما ينقله لهم من معلومات ومعارف ، فكان تأثرهم بها أشد من تأثرهم بالمعلومات التي أخذوها عنه ، فهذا ابن وهب يقول : ” ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه ” .
وهذا سلم بن جنادة يقول : ” جالست وكيعًا سبع سنين ، فما رأيته بزق ، ولا مس حصاة ، ولا جلس مجلسًا فتحـرك ، وما رأيته إلا مستقبل القبلة ، ومـا رأيته يحلف بالله ” ، بل إن بعضهم جعل مقصده من الذهاب إلى المعلم اكتساب آدابه وأخلاقه ، ومنهم أبو بكر المطوعي ، حيث يقول : ” اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة ، وهو يقرأ المسند على أولاده ، فما كتبت عنه حديثًا واحدًا ، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه ” .
وقيل : كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون ، نحو خمسمائة يكتبون ، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت ” .
كما كان بعض أولياء الأمور يوصي ولده بالحرص على تعلم الأدب من معلمه ، والاقتداء به في هديه وسمته وعبادته ، ثم يأخذ عنه العلم بعد ذلك ، فهذا إبراهيم بن حبيب الشهيد ، يحكي عن والده أنه كان يقول له : ” يا بني ، إيت الفقهاء والعلماء ، وتعلم منهم ، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم ، فإن ذلك أحب إلي لك من كثير من الحديث ” .
ولهذه الأهمية بيّن أهل العلم الأوصاف التي ينبغي مراعاتها عند اختيار المعلم فقالوا :
” ينبغي للطالب أن يقدم النظر ، ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه ، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته ، وتحققت شفقته ، وظهرت مروءته ، وعرفت عفته ، واشتهرت صيانته ، وكان أحسن تعليمًا ، وأجود تفهيمًا ” .
3 ) إن التزام المعلم بالآداب سبب لفهمه للعلم وضبطه ، وأدعى لتحري الصدق والأمانة في نقله ، قال يوسف بن الحسين :” بالأدب تتفهم العلم ، وبالعلم يصح لك العمـل ” .
وقال محمد بن إبراهيم البوشنجي : ” من أراد العلم والفقه بغير أدب ، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله ” صلى الله عليه وسلم.
وذلك لأن الأدب يجعل المعلم ينقل إلى تلاميذه ما صح عنده ، ويبلغهم العلم كما سمعه ، فقد كان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” اللهم إن لا هكذا وإلا فكشكله ” ، وكان القاسم بن محمد بن أبي بكر ينهى أن يتكلم الإنسان في شيء لا علم له به ، فيقول : ” إن من إكـرام المرء نفسه ألا يقول إلا ما أحاط به علمه ” .
كما أنه يجعل المعلم مطمئنًا أثناء تعليمه ، بحيث إذا سئل عما لا يعلم فإنه لا يتورع أو يتحرج من قول : ” لا أدري ” ، يقول ابن وهب : ” لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك لا أدري لفعلت ” ، هذا مع أن مالكًا – رحمه الله – لم يتصدر للتدريس والفتيا حتى شهد له سبعون أنه أهل لذلك ” .
وهذا بالتالي يرفع من قدر المعلم عند طلابه ، ويكسبه احترامهم ، لأنهم لمسوا منه حرصه على التحري عند نقل المعلومة ، وتثبته عند إجابتهم على أسئلتهم .
4 ) أن التزام المعلم بالآداب الفاضلة يجعل أثره في نفوس المتعلمين واضحًا ملموسًا ، حيث أنهم سيقبلون منه نصائحه وتوجيهاته ، ذلك لأن النفوس مجبولة على حب من يحسن إليها ، ويعاملها باللطف والرفق ، وبغض من يسيء إليها ، ويعاملها بالشدة والقسوة ، قال أبو العباس السفاح : “من شدد نفّر ، ومن لان تألّف”.
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن من صفات المعلم الناجح حسن معاملته لطلابه ، كالعدل بينهم، والسعي في مصالحهم ، ومساعدتهم بما تيسر عليه من جاه أو مال ، والتواضع لهم ، والسؤال عمن غاب منهم ، إلى غير ذلك مما يترك للمعلم مكانة كبيرة في نفوس طلابه ، قد تَرْبوا علـى منـزلة الوالد ، ولذلك جاء في الحديث : ” إنما أنا لكـم بمنـزلة الوالد أعلمكم ” ، وبالتالي فإنـه يستطيع بهذه المنـزلة أن يوجه المتعلمـين إلى ما فيه سعادتهم ، وينهض بالعملية التعليمية إلى أعلى مستوياتها ، مما يعود على المجتمع بالخير والبذل ، ويشيع في جنباته المحبة والصفاء .