الاستماع للآخرين له أصول وآداب، وكذلك الاستماع للقرآن له آداب ينبغي أن يتحلى بها المربون، فإذا أحسن المتربي الاستماع، وتحلى بهذه الآداب أعانه ذلك على التدبر، يقول أبو بكر الآجري: “فكان حسن استماعهم يبعثهم على التذكر فيما لهم وعليهم”.
وللتربية على الاستماع، على المربي أن يطلب منهم صراحةً، وليس بالإشارة والتلميح، أن يستمعوا وينصتوا للآيات التي سوف تُقرأ عليهم، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه أن يستنصت الصحابة ليستمعوا إلى توجيهاته صلى الله عليه وسلم، فعن جرير رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (استنصت الناس) ثم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
ومن أهم ما ينبغي أن يتربى عليه المستمع لكتاب الله ما يلي:
1ـ التهيؤ الذهني والنفسي قبل الاستماع: ويتطلب التهيؤ تجاوباً جسدياً من المستمع، وذلك بأن يثبت أعضاءه ولا يحركها، والتجاوب الجسدي نتيجة نتيجة حتمية لتوجيهات القلب الذي يأمر الأعضاء فتطيع، قال وهب بن منبه: “من أدب الاستماع سكون الجوارح، والعزم على العمل…يعزم على أن يفهم، فيعمل بما فهم”. وهذا هو الاستماع التربوي المحمود، وذلك بأن يروض المتربي أعضاءه وجوارحه، فلا يشتغل قلبه عما يسمع من آيات، ويغض طرفه فلا ينصرف فؤاده بما يرى، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، والأهم من ذلك أن ينوي بقلبه على أن يبذل جهده لكي يفهم ما يستمع إليه، ثم يبادر مباشرةً للعمل بما فهم.
2ـ عدم الانشغال عن الاستماع أثناء القراءة، كأن ينظر إلى ما حوله من موجودات، أو يمسك بكتاب أو مسبحة أو غيرها من المباحات، فضلاً عن التلهي بالمحرمات، ومن صفات أعداء الله أنهم يبذلون جهدهم بشتى الوسائل لصرف أبناء الأمة عن استماع القرآن، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
3ـ التفكير أثناء الاستماع في الآيات المتلوة، حيث يتدبر ما يسمع، ويستعرض أحوال النفس معها، وهذه صفة ممدوحةٌ من صفات عباد الرحمن، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً). يقول القرطبي: “فكان حالهم يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ـ عند المواعظ ـ الفهم عن الله، والبكاء خوفاً من الله، ولذلك وصف الله أحوال المعرفة عند سماع ذكر الله وتلاوة كتابه، فقال: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحِقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). فهذا وصف حالهم، وحكاية مقالهم، فمن كان مستناً فليستن”.
4ـ الخشوع والبكاء أثناء الاستماع، وبذلك يحدث حسن التفاعل القلبي والجسمي مع الآيات المسموعة، فلا يكون التفاعل بالآهات المنكرة أو الأصوات المزعجة، ولا يكون البكاء بالصراخ والعويل، كما يفعله بعض المستمعين للقرآن، وإنما يكون الخشوع والبكاء منضبطاً ومتأسياً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يصفه ابن القيم رحمه الله بالأوصاف التالية: “لم يكن بكاؤه صلى الله عليه وسلم بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه عند سماعه القرآن بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحب للخوف والخشية”.
وبهذا التفاعل يكون للاستماع أثره التربوي، وفعله التدبري، وقد وصف القرآن أهل العلم الذين يسمعون كلام الله بأنهم يبادرون إلى الطاعات، ويتأثرون، ويبكون ويخشعون، قال تعالى: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلَى عَلَيهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا، وَ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً). يقول الشوكاني: “يبكون بتأثير القرآن في قلوبهم، ومزيد خشوعهم حيث (يزيدهم) سماع القرآن (خشوعاً) أي لين قلوب، ورطوبة عين”.
كما أن صفة البكاء عند سماع القرآن من صفات المصطفين الأخيار من عباد الله الصالحين، الذين قال الله عنهم: (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيَّأً).
وذكر أبو نعيم في الحلية أنه: “لما قدم أهل اليمن زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسمعوا القرآن، جعلوا يبكون، قال أبو بكر: (هكذا كنا)”.
5ـ التفاعل الحسي والمادي: أي الاستجابة المطلقة بعمل الجوارح، وبذل غاية الجهد لتنفيذ ما تدعو إليه تلك الآيات أو تحذر منه، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ واسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ)، وقال أيضاً: (فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَأَنْفَقُوا خَيْراً لأنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولائِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ).
وقد أخبر الله عن أمة اليهود أنهم يسمعون ولا يستجيبون، قال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً).
بينما من صفات المؤمنين أنهم يبادرون للاستجابة، فعلاً وتركاً، إذا سمعوا أوامر ربهم ونواهيه، قال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ).