الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين:
بقدرة الله تعالى تتدفق في الإنسان غريزة الخوف التي تدفعه إلى توقي من يخافه، أو ما يخافه من مخاليق وأحداث وفواجع حادثة أو متوقعة. وتشكل المخاوف في مسيرته وسلوكه نهجاً محاطاً بذلك الذي يخافه ويهابه ……..
وكلما كان مصدر الخوف موصوفاً بفائق قدرته وقوته، ازداد حذر المرء منه، وإذا اجتمع مع تلك القدرة والقوة إحاطته بشيء من تصرفاته ازداد معدل التوقي.
وإذا جهل المرء بمن يرقبه أو بقوته وقدرته؛ أخذه ذلك الجهل نحو التمادي في المخالفة، ويمم به صوب مصائد الرقيب. ولطالما وقع المرء في شراك ذلك.
ويبث هذا الخوف في نفس المرء ما يستوجب السؤال والبحث عمن يرقب سلوكه في الطريق وفوق دابته ومركوبه؛ وفي مدرسته وفي مهنته، وغيرها من مواطن المراقبة.
وكلما كان عِلمُ الرقيب دقيقاً عميقاً؛ وأكثر إحاطة وقدرة وصرامة؛ كان سلوك المُرَاقَب أكثر حيطة وحذراً.
فكيف إذا علم الإنسان أن خالقه تبارك وتعالى هو (عالم الغيب والشهادة) وهو (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (والله بكل شيء عليم) بل من دقة علمه وإحاطته بمخلوقه أنه (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)
وهذا يتطلب من المسلم معرفة المزيد من قدرة وعلم خالقه، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.
قال الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) وقال تعالى (والله يعلم ما في قلوبكم) وقال تعالى (و لله يعلم ما تبدون وما تكتمون) وقال تعالى (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) وقال تعالى (والله يعلم إسرارهم) وقال تعالى (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) وقال تعالى (والله يعلم أعمالكم) وقال تعالى (والله يعلم ما تصنعون)
بل إن الله يعلم مقصد العبد في العمل الطيب الذي من ورائه نية خبيثة، قال تعالى في شأن المنافقين (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فظاهر قولهم إيمان وعمل صالح (نشهد إنك لرسول الله) ولكن لله يعلم أنهم يخفون نية خبيثة، وهي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى (والله يعلم المفسد من المصلح)
ومن دقة علمه تبارك وتعالى أنه يعلم ما يتناجى به الاثنان من كلام لا يسمعه ثالث من البشر، قال تعالى (ألم ترى أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم)
فالمرء الموفق يدرك إدراكاً تاماً أن علم الإنسان مهما بلغ فهو محاط بالقصور والخطأ، وما يجهله عن بعض ملحقات ما يعلمه عظيم، فكيف بما لا يعلم عنه شيئا أصلاً، بينما علم الله تعالى كامل شامل (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) وقال تعالى (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
والموفق موقن أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، فلا كاهن ولا عراف ولا جان يشده كلامه، قال تعالى عن نبيه سليمان عليه السلام الذي جهلت الجن موته، (فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) فلم تعرف الجن موت نبي الله سليمان عليه السلام إلا عندما أكلت دابة الأرض (الأرضة) العصا. فسقط ميتاً.
وهذه المعرفة بعلم الله تعالى تحقق في قلب المؤمن مراقبة الله تعالى في السر والعلن، وما يترتب على ذلك من استقامة السلوك والوقوف عند أوامره تعالى ونواهيه، وبذل الجهد في الخوف منه، بل والطمع فيما عنده من خزائن الخير، لأنه عالم ومطلع على حاجات عبده وكرباته وفواجعه وآلامه وآماله، فيصبح الرجاء متعلق به، ومستأنس بدعائه ورجائه، ومتلذذ بمناجاته، ومنتظر لكريم عطائه، ومتشوق لاستجابة دعائه، ومستغني به عن غيره، ومتلهف لكريم عطائه، ومتعفف عن غنائم غيره، فهو مؤمن ومعتصم ومستعين به وحده تبارك وتعالى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)
اسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يخشونه في الغيب والشهادة، ومن المؤمنين المستعينين المعتصمين به تبارك وتعالى، والمتوكلين عليه حق التوكل، وكفى بالله ولياً ونصيراً ووكيلا.
و الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين: