يعتبر وضوحُ الأهدافِ من أولويات العملِ التربوي ، إذ في ظِلِّ وضوحِها تتحددُ المعالـمُ المختلفةُ للعمليةِ التربوية ، وبناءً عليها يتم اختيار الوسائل والأساليب المناسبة للقيام بالعمل المطلوب ، ومن ثم تتنظَّم العملية النقدية وتنضبط ، بحيث تؤتي ثمارها بأقل جهد ، وأقصر وقت ، وأفضل عطاء، وعمليةُ النقد التربوي تنطلقُ في أهدافِها من الهدفِ العامِ للتربيةِ الإسلامية ، وهو : تكوينُ وتنشئةُ الإنسانِ العابدِ الصالحِ من جميع جوانبه ، بحيث يعرفُ ربَّه ، ويَدِينُ له بالطاعةِ والعبادة ، ويعرفُ نَفْسَه ، ويَقْدُرُها حقَّ قَدْرِها ، في حدودِ العبوديةِ للهِ وَحْدَه ، ويعرفُ رسالتَه كمستخلَفٍ في الأرض ، يَعْمُرُ الحياةَ فيها في ظِلّ حُكْمِ اللهِ وشريعتِه وهداه ، ويجتهدُ في الوصولِ إلى الكمالِ الإنساني، وباختصارٍ هدفُ التربيةِ الإسلاميةِ هو : إرضاءُ الرحمنِ وإسعادُ الإنسان ، وفي ضوء ذلك فمن أهدافِ النقدِ التربوي:
آداءُ المسئوليةِ ، وإبراءُ الذمةِ :
كما قال الله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلناسِ ولا تَكْتُمُونَهُ)، قال ابن كثير رحمه الله : ” فعلى العلماءِ أن يبذُلوا ما بأيديهم من العلمِ النافعِ الدالِّ على العملِ الصالح ، ولا يكتموا منه شيئاً ، فقد ورد في الحديثِ المروي من طرقٍ متعددةٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” من سئل عن علمٍ فكتمه أُلجم يومَ القيامةِ بلجامٍ من نار “.
وقال السعدي رحمه الله : ” الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد ، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب ، وعلمه العمل ، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله ، ولا يكتمهم ذلك ويبخل عليهم به ، خصوصاً إذا سألوه أو وقع ما يوجب ذلك ، فإن كل مَن عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه ويوضح الحق من الباطل ” .
وقال تعالى على لسان الذين حَذَّروا المعتدين من بني إسرائيل في السبت لما قيل لهم : (وإِذْ قَالَت أُمَّةٌ مِنْهُم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شديداً قالوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ ولَعلَّهمْ يتَّقُون)، وذلك لأن المسئولية الجماعية تعد امتداداً للمسئولية الفردية ، فحينما نُسأل عن أعمال غيرنا فإنما نُسأل في الحقيقة عن انعكاسات مواقفنا الإيجابية أو السلبية إزاء تصرفاتهم .
يقول أبو بكر بن العربي رحمه الله عند تفسيره لقول الله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) : ” هذا حُكْمٌ من الله تعالى نافذٌ في الدنيا والآخرة ، وهو ألا يؤاخذ أحداً بِجُرْم أحد ، بَيْدَ أنه يتعلق ببعض الناس من بعضٍ أحكامٌ في مصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على البر والتقوى ، وحماية النفس والأهل عن العذاب ، كما قال تعالى: (يا أَيُّها الذينَ آمنُوا قُوا أنفُسَكُم وَ أَهْليكُم ناراً )، والأصل في ذلك كله أن المرء كما يفترض عليه أن يصلح نفسه باكتساب الخير ، فواجبٌ عليه أن يصلح غيره بالأمر به ، والدعاء إليه ، والحمل عليه ، وهذه فائدة الصحبة ، وثمرة المعاشرة ، وبركة المخالطة ، وحسن المجاورة ، فإنْ أحسن في ذلك كله كان معافىً في الدنيا والآخرة ، وإنْ قصَّر في ذلك كله كان معاقَباً في الدنيا والآخرة ، فعليه أولاً : إصلاح أهله وولده ، ثم إصلاح خليطه وجاره ، ثم سائر الناس بعده بما بيناه مِنْ أَمْرِهم ودعائهم وحَمْلِهم ، فإنْ فَعلوا ، وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم ، فهو يحملهم على ذلك قسراً ، ومتى أغفل الخَلْقُ هذا فَسَدَتْ المصالح ، وتشتت الأمر ، واتسع الخرق ، وفات الترقيع ، وانتشر التدمير ” ، وهذا يبين عموم مسئولية النقد التربوي على كافة أفراد المجتمع ، فلا تبرأ ذمتهم إلا بأدائها ، كلٌ على قدر وسعه وطاقته .
وجاء من حديثِ تميم بن أوسٍ الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الدين النصيحة ؛ قلنا : لمن ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم )) ، والنصح لا يخلوا من العملية النقدية ، من بيان الخطأ ، وحقيقة الصواب ، فإذا نَصَحَ الإنسانُ الآخرين ، وانتقدهم بالضوابطِ الشرعية المرعيةِ فقد أدى ما عليه ، وخَلَتْ ذِمَّتُه من المسئوليةِ أمامَ اللهِ تعالى ، بخلاف ما إذا فرَّطَ وأَهْمَلَ هذا الأمر فإنه يكون تحت طائلة المسئولية ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما من قوم يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يغيِّروا ثم لا يغيِّروا ، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ” .
قال ابن العربي رحمه الله : ” وهذا الفقهُ عظيمٌ ، وهو أن الذنوبَ منها ما يُعجِّلُ الله عقوبتَه ، ومنها ما يُمْهِل بها إلى الآخرة ، والسكوتُ عن المنكرِ تتعجَّل عقوبتُه في الدنيا بنقصِ الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وركوبِ الذلِ من الظَلَمَةِ لِلْخَلْق … “.
وينسحب أداء المسئولية في الجانب النقدي على المعلم والموجِّه في المدرسة ، والوالدين في المنزل ، وكلٌّ في ميدانه بحسب ما استرعاه الله عز وجل من رعية ، إذ لا تنفك المسئولية الشرعية إلا بأداء حقها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ألا كلكم راعٍ ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته)، فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة والبلاد ، وحفظ أمنها من عبث العابثين ، بإقامة الحدود ، والعدل في الأحكام ، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم ، وإيصالهم حقوقهم ، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم ، والنصيحة للزوج في كل ذلك ، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده من مالٍ أو متاع ، والقيام بما يجب عليه من حق الخدمة وغيرها ، بل يدخل في عموم هذا الحديث المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد ، فإنه يَصْدُق عليه أنه راعٍ على جوارحه مِن قلبٍ وسمعٍ وبصرٍ ويدٍ ورِجْلٍ وبطنٍ وفرجٍ وغيرها ، حتى يعمل المأمورات ، ويجتنب المنهيات ، فِعْلاً ونُطْقاً واعتقاداً ، فجوارحه وقُوَاه وحواسه رعيته، وهو مسئولٌ عنها .
وتَحَمُّل هذه المسئولية يتطلب ممارسةً عمليةً مستمرةً للنقد التربوي ، حتى يتم التأكد من أدائها على الوجه المأمور به ، فالعملية التربوية قائمةٌ على أداء مسئوليتها ، وما يتبع ذلك من التوجيه القائم على النقد التربوي للفكر أو السلوك أو غير ذلك من مجالات الحياة المختلفة .